نظرة في كتاب عبد الرحمن منيف
يأخذنا الكاتب السعودي الراحل عبد الرحمن منيف عبر كتابه “رحلة
ضوء” إلى نزهة جميلة عبر مراحل تدرج الرواية العربية. ويسرد لنا أهم المرتكزات التي
يجب أن يتكئ عليها الكاتب خلال مرحلة كتابة الرواية، كما يسهب منيف في تفصيل أهم الأسباب
التي تؤدي إلى نجاح أو فشل الرواية، فضلاً عن مراحل تطورها وارتباطها بعدة عوامل مثل
المدن والسير الذاتية والتاريخ وغيرها.
في البدءِ كانت المغامرة
اتجه الكتّاب في البداية إلى رواية المغامرة التي تعتبر هي اللبنة
الأول لكتابة الرواية بشكل عام حيث اكتسب مفهوم البطولة في البدايات ملامح محددة جعلت الأحداث والمناخات والأشخاص تأخذ مسارات تصب في النهاية لخدمة البطل المركزي فقط.
وهذا الأمر جعل أي اشخاص آخرين في الرواية هم ظل للبطل الرئيسي
من خلال اقتصار أدوارهم على تهيئة “المسرح” للبطل حتى يظهر مواهبه وجوانب العظمة والقوة
فيه، وحتى العنصر النسائي حين يظهر كثيراً في مثل هذه الروايات فهو يكون تعبير عن المكافأة
أو تتويج للبطولة المركزية فيها.
وفي سياق تطور الرواية برزت الرواية التاريخية التي لعبت دوراً
في إضفاء قدر من المصداقية على دور البطولة من خلال اختيار النماذج الأكثر حضورا وإيحاء وإعادة تكوينها ما جعل البطل التاريخي بديلا مناسباً، لما تحفل به المخيلة الشعبية
من صفات لهذا البطل فهو يشكل تعويضا لنمط معين من أحلام ورغبات مكبوتة.
وبهذه الطريقة تم استخراج أبطال لا عدد لهم من التاريخ وإعادة
تصنيعهم عبر استغلال الضباب التاريخي الذي يخيم على ذاكرة الكثيرين. ولأن البيئة التاريخية
لأبطال من هذا النوع بعيدة وتكاد تكون مجهولة فأن من السهل إعادة صناعتهم وفق ما يخدم
قناعات وأهدافاً معينة.
وقد يظهر في الرواية التاريخية شخصيات آخرى غير البطل مثل الوزراء
والمغنين والجواسيس والخدم والمحظيات ورجال الدين والمستشارين ورغم اختلاف أدوار هؤلاء
عن الشخصيات في رواية المغامرات لكن الأضواء ظلت مسلطة على البطل/ المحور.
أنماط جديدة
ونتيجة للتطورات الكبيرة والمتواصلة أخذت تظهر أنماط جديدة من
البطولات الروائية ولم يعد هناك البطل الأوحد بل أصبحت الرواية تتضمن العديد من الأبطال
الذي يدورن في الفلك ذاته، كما أصبح الصراع في الرواية عنواناً أساسياً مثلما يحدث
في الحياة، وأكثر من ذلك إذ لم تعد البطولة تقتصر على البشر وحدهم بل أصبحت الأماكن
والحيوانات والأشياء مادة للبطولة الروائية ومثال على ذلك رواية الكاتب اليوغسلافي
إيفو اندريتش “جسر على نهر دارينا”، و “الشيخ والبحر” لـ الأميركي أرنست هيمنجواي وغيرها
الكثير.
يمكن لرواية واحدة أن تحتمل عدداً كبيرا من الأبطال سواء من
البشر أو الحيوانات أو الزمان أو المكان أو الأشياء. إن خمسين أو ستين سنة من حياة
الإنسان، أي إنسان، تستحق أن تمنح بضع صفحات، أو عددا من الدقائق، لكي تلخص ومن خلال
هذا التلخيص قد يضاء عالم بأكمله.
الحوار أهم التحديات
يرى منيف أن من جملة التحديات التي تواجه كتابة الرواية: لغة
الحوار، فالحوار في الرواية ركن أساسي من أركانها لأنه بمثابة الدماء التي تجري في
الشرايين وتمد الرواية بالحياة وتجعلها تأخذ ملامحها وتميزها وألقها.
لذلك يحتاج الكاتب أن يفصل نفسه عن لغة عمله لأن القراء يرون
الشخصية عبر الكلمات التي تقولها والأفعال التي تقدم عليها مما يتطلب أن يضع الكاتب
مسافة بين لغته الخاصة ولغة شخصياته.
كذلك على الكاتب أن يضع بعين الاعتبار كيف يمكن أن يصور على
سبيل المثال لغة شخص بسيط من الطبقة الدنيا لأي مجتمع، كيف يمكنه أن يصيغ حوارات هذه
الشخصيات البسيطة بلغة غير متكلفة ولا جامدة وبعيدا عن اللغة العامية ودون أن يكون
الحوار يابساً ومفتقداً للحرارة والصدق.
ولأن الحوار هو الطاقة المحركة التي تدفع الأحداث إلى الأمام
فأن على الكاتب أن يجد لغة شخصياته الخاصة بعيدا عن اللهجة المغرقة في محليتها والتي
تشكل حاجزا بين الرواية ومداها العربي، وأيضا عن اللغة الفصيحة المقعرة القاموسية كتلك
التي تجري على ألسنة شخصيات المسلسلات المكسيكية المدبلجة.
ويخلص منيف في هذا الجانب إلى أن الرواية العربية تحتاج إلى
نسّاك متفرغين لها تكون علاقتهم بها أشبه بالزواج الكاثوليكي. ويضرب مثالاً على ذلك،
ما حصل على يد الأديب المصري نجيب محفوظ إذ انصرف محفوظ منذ وقت مبكر إلى الرواية،
وبدأب لا يعرف التوقف أو التعب واصل تجاربه سواء باختيار الموضوعات والشخصيات والأماكن
وهو ما مكنه من أن يقدم إنجازات بارزة للرواية العربية أصبحت الأساس لما بني عليه فيما
بعد.
الشخصية وحياتها المستقلة
إن الشخصية الروائية بقدر ماهي من خلق الكاتب، حتى لو كان لها
جذر واقعي في إحدى المراحل، فإنها ما أن تبدى اولى خطواتها في الرواية حتى تصبح لها
حياة مستقلة، وبالتالي تعتبر الشخصية في مراحل عديدة خالقة لنفسها ومسؤولة عن تصرفاتها.
من الضروري أن تكتسب الشخصية الروائية صفاتها نتيجة الممارسة
وبشكل متدرج، أي أن تصل إليها عن جدارة، وبسبب الأفعال التي يولدها الحدث الروائي،
لا نتيجة ما يضفيه الروائي عليها من صفات، لأنه في النهاية الرواية كما الحياة لا تتكون
دفعة واحدة أو بشكل كامل، الأمر الذي يجعل الصفات تكتسب فترة بعد أخرى، حدثاً وراء
الأخر، وبهذا الطريقة تتكامل الشخصية الروائية وتكتسي ملامح إنسانية وتكون أكثر تأثيرا
ورسوخا في العقل والوجدان.
إن الشخصية الروائية يمكن أن تكون كبيرة ومؤثرة وتصبح لها حياة
بعد أن تنطوي صفحات الرواية ويمكن أن تتحول هذه الصفحات ذاتها مقبرة للشخصية، وهذا
هو التحدي بين شخصية روائية ولدت لتبقى وأخرى ولدت لتموت.
الخلاصة
القي منيف الضوء في رحلته على العديد من الأمور الأخرى التي
أثرت في تطور الرواية العربية، كما انه أسدى الكثير من النصح إلى الروائيين الشباب
الساعين إلى اكتشاف عوالم الرواية شديدة التعقيد. فهو يرى أن على الكاتب أن يمتلك ذاكرة
تلتصق بالأشياء وترصد كل ما تشاهد بعين المتفحص حتى يتكون مخزون كبير من الصور والمشاعر
والتأملات يلجأ إليها الكاتب في رحلته الضوئية عبر كتابة الرواية.
إن الكتابة باختصار رحلة مليئة بالمتعة والعذاب وحتى تستطيع
ان تصل من خلالها إلى هدفك المنشود عليك أن تشعر بكلتا الحالتين حتى النفس الأخير.
المصدر: تكوين
بقلم: زيد الفضلي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))