الاثنين، 2 مارس 2015

أيام في طرابلس - الراحل مصطفى محمود



أغلى الخمور ما كانت معتقة...
كلما زاد عمر النبيذ في الدنان زاد سعره... هكذا يقول المدمنون.
والحضارات شأنها شأن الأنبذة كلما ضربت بجذورها في الزمن زادت عراقة ونبلاً.. وكذلك المدن عظمتها بتاريخها ونصيبها من تقلب الأحداث.

كان هذا ما خطر لي وأنا أتمشى على شاطىء طرابلس... فكل ذرة رمل كانت تقول لي هنا تاريخ.
تحت أقدامي حيث تلمع أصداف البحر... من أغوار الزمن السحيق... منذ عشرة آلاف سنة... تقول لنا خريطة العالم القديم... كان هذا الشمال الإفريقي مسرحاً للفيلة والغزلان والزراف والثيران والأسود والنمور... وكان الليبييون الأوائل يعبدون الشمس والقمر ويصنعون الأسحلة من الصوان ويصنعون الأواني الفخارية من الطين المحروق ويستعملون الوشم.
ويمضي شريط التاريخ بضعة آلاف أخرى من الأعوام... فأرى رسل خوفو يأتون إلى هذا المكان خُطابًا يبحثون له عن عروسة ليبية يتزوجها ليأمن بهذا الزواج غارات الليبيين ويتفرغ لبناء هرمه الذي كان يحتاج لعشرين سنة من العمل المتواصل..
ثم بضعة آلاف أخرى ويخرج من هنا رجل اسمه "شيشنق" يغزو دلتا النيل ويحكمها 200 سنة وتعرف أسرته بين الفراعنة بالأسرة الثانية والعشرين...
ثم يأتي الغزاة كأرجال الجراد. ويرتفع صليل السلاح ويتخضب ذلك الشاطئ الهادئ الجميل بالدم.
وتمضي مواكب خلف مواكب.
الإغريق... الفينيقيون... العرب... الأسبان... الأتراك... الطليان... الإنجليز... وأسماء مدوية... الإسكندر... بطليموس... عمرو بن العاص.
وجيوش بعد جيوش تصبح ترابًا... وأطماع تذروها الرياح... ومدن تدفنها الرمال...
هنا بقايا قوس ماركوس أوريليوس... وهنا حمامات وأسواق رومانية... وفي بلدة سيرين القريبة معبد أبولو... ومن هذا الباب دخل عمرو بن العاص سنة 23 هجرية في جيش من خمسة آلاف جندي...
وفي سنة 568 هجرية جاء قراقوش المشهور في مصر غاضبًا مغضوبا عليه من الأيوبيين ليدخل طرابلس من هذا الباب غازيًا ومعه عسكر كثير وينهب ويسلب ويقود البغال محملة بالذهب إلى قابس...
وهنا جلس بيدرو نافارو القائد الأسباني بعد أن فتح المدينة ليكتب إلى نائب الملك فرديناند قائلاً:
أيها السيد هذه المدينة طرابلس أعظم كثيراً مما كنت أظن... وبالرغم من أن جميع الذين وصفوها قد أجادوا الوصف فإنني أرى أنهم لم يجتازوا نصف الحقيقة... وبين جميع المدن التي شاهدت في الدنيا لم أجد مدينة تضاهيها سواء في تحصيناتها أو في نظافتها... وهي تبدو كمدينة إمبراطورية أكثر من مدينة لاتخص ملكاً واحدًا.
ومن هنا مر "التيجاني" المؤرخ حينما كتب في كتابه "رحلة التيجاني"...
"ولما توجهنا إلى طرابلس وأشرفنا عليها كاد بياضها مع شعاع الشمس يعشي الأبصار، فعرفت صدق تسميتهم لها بالمدينة البيضاء"...
ويضيف في مكان آخر...
ورأيت شوارعها فلم أر أكثر منها نظافة ولا أحسن اتساعًا واستقامة، وذلك أن أكثرها تخترق المدينة طولا وعرضًا من أولها إلى آخرها على هيئة شطرنجية، فالماشي بها مشي الرخ خلالها... (الرخ هو قطعة الطابية في الشطرنج).
وعن الغزو الأسباني نعثر على خطاب كتبه الملك فرديناند إلى قائده...
استلمت رسائلك الثلاث الخاصة بتموين الحملة وقد أمرت بأن يكتب إلى ألونزو حتى يطحن بأسرع ما يمكن ألف كيس من القمح ويجهز كمية من البسقماط المجفف تكفي ثمانية آلاف رجل مدة 15 يومًا... كما كتبت إلى خازن أموال ملقا بصرف عشرة آلاف دوكات ووضع كل ما يملك من إمكانيات التموين تحت تصرفكم...
هكذا كانت تدبر المذبحة لأهل هذا البلد منذ أربعمائة سنة...
وفي صباح الخميس 25 يوليو سنة 1510 داهم بدرو نافارو طرابلس في أسطول من 120 سفينة على متنها 15 ألف جندي أسباني وثلاثة آلاف من المرتزقة الإيطاليين والإوروبيين.
وكان العرب يدافعون من وراء هذه الأسوار ومن خلف هذه القلعة ذاتها وما زالت قائمة بأبراجها... ومن هنا كانت النبال وقذائف الحجارة والنار الفارسية والمياه الفائرة تتدفق في محاولة لإيقاف جحافل الغزاة.
وفي ذلك اليوم استشهد خمسة آلاف عربي وأسر عشرة آلاف آخرين بيعوا كرقيق في أسواق صقلية بسعر 3 إلى 5 دوكات للرأس...
وتذكر الرواية أن يهود إيطاليا افتدوا أبناء جنسهم اليهود الذين أسروا في المعركة، أما ما تبقى من العرب فقد هربوا إلى تاجوراء وإلى جبال الغريان... وسقطت طرابلس بعد حرب أربع ساعات...
ويروي لنا التاريخ أن بدرو نافارو الذي أبحر بعد ذلك بجزء من الأسطول ليغزو قرقنة ويحقق أحلام أسبانيا التوسعية عاد بهزيمة منكرة بعد أن فقد 90 سفينة وتسعة آلاف قتيل...
واضطرت الحامية الأسبانية أن ترحل عن طرابلس تحت وطأة المقاومة الليبية والنجدات المستمرة التي تأتي من الداخل... ونعرف من التاريخ أن طرابلس بلغت أوج عظمتها في عهد "أحمد باشا القره ماللي" وهو تركي مثل محمد علي باشا في مصر أستقل بحكم ليبيا... وأنشأ دولة قرة ماللية مستقلة عن الباب العالي العثماني...
وفي هذا العهد بلغت البحرية الليبية من القوة درجة جعلت كل الدول تدفع لها جزية سنوية لتأمين مرور سفنها في البحر المتوسط.
وحينما رفضت بحرية السويد سنة 1769 دفع الجزية... أسرت البحرية الليبية سبع سفن سويدية ولم تجد السويد سوى نابليون لتوسطه في عقد صلح مع ليبيا وإطلاق السفن الأسيرة... ويومها دفعت السويد ثمانين ألف فرنك غرامة.
ونجد أن أمريكا تسعى بعد ذلك بقنصلها لعقد صلح مشابه وتوسط حسن باشا والي الجزائر في ذلك الوقت لتأمين مرر سفنها في مقابل تعريفة سنوية.
ثم نجدها في سنة 1803 ترسل السفينة الحربية فيلادلفيا بقيادة بامبرديج لغرب طرابلس انتقامًا من تهديدها المستمر لأساطيلها... فتكون النتيجة ضرب فيلادلفيا وإغراقها أمام الشواطئ وأسر بامبريدج.
وفي سنة 1804 نجد أسطولاً أمريكيًا من 14 قطعة يضرب شواطئ طرابلس بدون جدوى.
وفي سنة 1805 تعترف أمريكا بسيادة ليبيا على البحر وتوقع معاهدة تدفع فيها 60 ألف دولار لاسترداد أسيرها بامبريدج.
وهكذا عرف هذا الشاطئ ذرى المجد ومهاوي الذلة تعاقبت عليه الأحداث... حتى التتار لم ينج من أهوائهم... ففي سنة 440 بعد الميلاد أغارت جيوش الوندال (وهي قبائل تترية) على طرابلس ونهبت وخربت وأحرقت وأحالت لبدة إلى كومة من الحجارة والتراب، فر أهلها أمام الوندال إلى النجوع والقرى البعيدة...
واستمر حكم الوندال إلى سنة 443 إلى أن أقبل بلزاريوس القائد الروماني في أسطول عظيم وهزم الوندال وشنق ملكهم قاليمار وأعاد ملك روما لروما...
وكان شر ما عانى هذا الشاطئ في أيام الاستعمار الإيطالي.
وكانت أولى محاولات إيطاليا الاستعمارية في أواخر العهد العثماني الثاني سنة 1911 وبدأت على استحياء...
أنشأت جالية إيطالية قوية في ليبيا...
وأرسلت الجواسيس تحت ستار البعثات العلمية...
وأهم من هذا كله أنشأت بانكو دي روما وكانت مهمته إقراض الملاك الليبيين الفقراء ثم نزع أملاكهم...
وكانت أنشودة رجل الشارع في هذه الأيام "أه يا طرابلس الجميلة".
ثم أسفرت إيطاليا عن نواياها فأعلنت الحرب في 29 سبتمبر سنة 1911... وبدأت المذابح... والحرب التي قدرت لها إيطاليا أن تنتهي في 15 يوماً أمتدت إلى عشرين سنة فلم تستسلم ليبيا إلا سنة 1931 بعد كفاح دامٍ قضى على نصف سكانها...
وفي سنة 1937 جاء موسوليني إلى هذا الشاطئ في موكب وهيلمان، ومثلت الإدارة مهزلة إهدائه سيف الإسلام وحامي حمى الدين... في الوقت الذي كان يطعن فيه الإسلام ويلزم خطباء المسجد المساكين بالدعاء على المنابر يوم الجمعة للملك عما نويل بدل الدعاء لخليفة المسلمين ويلقي المتمردين من الطائرات. كان المجاهدون يشنقون في الميادين العامة وتسبى النساء وتغتصب الأموال وتفرض اللغة الإيطالية كلغة أولى في المدراس وينفى الوطنيون بالألوف.. وعلى من يريد أن يضمن حرمة منزله وأملاكه أن يتجنس بالجنسية الإيطالية..
وعلى كل طفل ليبي أن ينشد في المدرسة نشيد الصباح:
إننا أبناء روما
جندها نحن القدامى
قد سعينا الألف عاما
ثم عدنا للعهود
وآلاف من المهاجرين الإيطاليين والمستوطنين يجلبهم الشاطئ كل يوم... ولكل إيطالي أرض مجانية يملكها وفيلا يسكنها وحدائق غناء تثمر له الفاكهة والتين والزيتون...
ثم يروي لنا التاريخ هزيمة الفاشية في الحرب، وجثة موسوليني التي بصق عليها مواطنوها...
أيام...
لقد شهدتِ أيامًا يا طرابلس...
من كان يظن أن الصحافة بدأت في طرابلس منذ 140 سنة بجريدة مخطوطة باليد كان يصدرها القناصل في نسخ محدودة.
ثم أصدرت طرابلس بعد هذا "السالنامه" بالتريكة والعربية والمطبعة الحجرية وصدر منها 11 عدداً.
وفي سنة 1866 بدأت جريدة طرابلس الغرب التي ظلت تصدر أكثر من 40 عاماً في العهد العثماني، وكانت أكثر الصجف قبل ذلك تتقاضى اشتراكات عينية... كذا شوالا من الشعير وكذا مكيالا من القمح مقابل اشتراك سنوي...
ومنذ سبعين سنة كانت في طرابلس سبع صحف...
الترقي، والعصر الجديد، والكشاف، والرقيب، وأبو قشة، وغيرها وغيرها في ظروف طباعة بدائية، وفي أسوأ ظروف الاستعمار الإيطالي... نقرأ هذا في كتاب علي مصطفى المصراتي "صحافة ليبيا" وعلى المصراتي هو عقاد ليبيا لا تستطيع أن تعرف أي شيء عن ليبيا دون أن يتمر على كتبه...
وفي ليبيا زهر جديد طالع كالنوار أمثال أحمد الفقيه، وبشير الهاشمي، ويوسف الغويري، وعلي صدقي، يكتبون القصة والمقال والشعر... وفي ليبيا أبطال بذلوا دماءهم فداء ومحبة أمثال سعدون وغوما وعمر المختار وسوف تكون لنا وقفة طويلة مع بعضهم..
وليبيا مازالت تتكلم العربية بالرغم من عشرات الغزاة الذين حاولوا فرض لغتهم بالسيف والمدفع... وهي مسألة تدعو للتأمل... فالعرب أتوا غزاة هم الآخرون... وأتوا بالسيف... ومع ذلك تقبلتهم ليبيا مفتوحة الذراعين وتشربت لغتهم وحضارتهم ثم تحولت إلى مدافعه عن العروبة والعربية أكثر من العرب الأوائل الذين عزوها...
وربما كان هذا هو الدليل القاطع أن ما فعله العرب بالعالم لم يكن نشراً للعقيدة بالسيف وإنما كان نشراً لحضارة...
وما انتشرت العقيدة بالقوة وإنما بجاذبيتها الذاتية وبما حملته للناس من صدق وسماحة ومحبة... وحقيقة بسيطة وساطعة مثل شمس هذا الشاطئ المشرق
ومازالت الأمواج تحت قدمي تتلاطم...
والأيام يتداولها الخالق بين الناس...
وعاصف التاريخ لن يهدأ...
لا الإمبراطوريات تظل إمبراطوريات، ولا العبيد يظلون عبيداً...
ترى ماذا تخبئ لك الأيام يا طرابلس...
 يا أعز من أحببت ذات شتاء في عام 1967

مصطفى محمود
حكايات مسافر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))