نظم غابرييل غارسيا ماركيز ورشات عمل لكتابة السيناريو في
مكسيكو، كان يقوم فيها بدور المايسترو الذي يضبط إيقاع فريق من الكتّاب؛ يطرح الأفكار،
يقترح التعديلات، يقدح نقاط الانطلاق، ويصحح مسار الحكايات التي يفترض تحويلها من فكرة
عارية إلى سيناريو فيلم جاهز للتصوير.
في كتابِه “ورشة سيناريو” المكوّن من ثلاثة أجزاء (كيف تُحكى
حكاية، نزوة القص المباركة، بائعة الأحلام) ينفذ ماركيز عميقًا في طبيعة العملية الإبداعية،
وما تتطلبه كتابة قصة جيّدة. انتخبنا من الكتاب جملة من المقاطع التي نأمل أن تساعد
الكاتب المبتدئ، وغير المبتدئ حتى!، في تحسّس طريقه داخل مشروعه الإبداعي بثقة وبصيرة
أعلى.
ففيما يتعلق بالعوامل الخاصة بنجاح ورش الكتابة الإبداعية،
يقول ماركيز:
” لا بدّ من إبداء الرأي بصراحة مطلقة؛ فعندما نرى شيئًا غير جيّد، يجب أن نقول ذلك؛ يجب أن نتعلم قول الحقيقة لبعضنا البعض وجهًا لوجه، وأن نعمل كما لو أننا نقوم بإجراء علاجٍ جماعيّ”.
وفيما يخصّ العملية الإبداعية، يقول:
“أكثر
ما يهمني في هذا العالم هو عملية الإبداع. أي سرٍ هو هذا الذي يجعل مجرد الرغبة في
رواية القصص تتحول إلى هوىً يمكن لكائن بشريٍ أن يموت من أجله، أن يموت جوعًا، أو بردًا،
أو من أي شيء آخر لمجرد عمل هذا الشيء الذي لا يمكن رؤيته أو لمسه، وهو شيء في نهاية
المطاف، إذا ما أمعنّا النظر، لا ينفع في أي شيء؟ لقد اعتقدت يومًا – أو توهمت بأنني
اعتقدتُ – بأنني سأكتشف فجأة سرّ الإبداع.. اللحظة الحاسمة التي تنبثق فيها الفكرة.
ولكن حدوث ذلك راح يبدو لي أصعب فأصعب. فمنذ أن بدأت بإدارة هذه الورش استمعت إلى ما
لا حصر له من التسجيلات، وقرأت ما لا يحصى من النتائج محاولاً أن أرى إذا ما كان بمقدوري
اكتشاف اللحظة الحاسمة التي تنبثق فيها الفكرة. ولكن لا شيء. لم أتوصل إلى تحديد ذلك.
ولكنني بالمقابل صرتُ مؤيّدًا للعمل في ورشة. وقد تحول ابتداع قصص جماعية إلى نوعٍ
من الإدمان..
ويؤكد ماركيز على ضرورة المحافظة على حسٍ عمليّ أثناء الكتابة،
فيقول؛
“يجب
على أحدنا ألا يقلق كثيرًا؛ فإذا كان هناك مشهد لا ينفع أو يسقط، فماذا يمكننا أن نفعل؟
يجب علينا البحث عن مشهد آخر. والمثير للفضول أن المرء يجد على الدوام تقريبًا مشهدًا
آخر أفضل. ولو أن أحدنا أبدى رضاه عن المشهد الأول، لخرج خاسرًا. والمشكلة الجدية تظهر
عندما يجد أحدنا المشهد الأفضل منذ البداية. عندئذ لا يكون هناك ما يمكن عمله.
كيفَ تعرف بأنك انتهيت من كتابة نصّك؟ يقول ماركيز:
“كيف نعرف ذلك؟ مثلما نعرف متى يكون الحساء جاهزًا. فليس هناك من يستطيع معرفة ذلك ما لم يتذوّقه.”
وعن الأفكار المتشابهة بين الكتّاب، يقول:
“يجب
ألا نسمح للتشابهات بأن تخيفنا، طالما هي غير مرتبطة بالمظاهر الجوهرية للقصة. لأن
الصحيح أن هناك قصصًا مختلفة جدًا ولكنها تتضمن مع ذلك الكثير من الأمور المشتركة”.
وعن ضرورة أن يمتلك الكاتب القدرة النفسية على استبعاد بعض
المقاطع والمشاهد، وعلى حذف أجزاءٍ مما يكتب، يقول ماركيز:
“يدب
أن نتعلم الاستبعاد. فالكاتب الجيد لا يُعرف بما ينشره بقدر ما يُعرف بما يلقيه في
سلة المهملات. الآخرون لا يعرفون ذلك؛ ولكن أحدنا يعرف ما يلقيه إلى القمامة، وما يستبعده
وما سيستفيد منه. وإذا كان يستبعد فإن هذا يعني أنه يمضي في الطريق السليم”.
وعن الخصائص النفسية الأهم للكاتب، يقولُ:
“يجب
على أحدنا حين يكتب أن يكون مقتنعًا بأنه أفضل من ثيربانتس؛ أما عكس ذلك، فإن المرء
سينتهي لأن يكون أسوأ مما هو في الواقع. يجب التطلع عاليًا ومحاولة الوصول بعيدًا،
ويجب امتلاك وجهة نظر، وكذلك شجاعة بالطبع لشطب ما يتوجب شطبه ولسماع الآراء والتفكير
فيها بجديّة. خطوة أخرى وسنكون في ظروف تمكننا من الشك حتى بتلك الأشياء التي تبدو
لنا جيدة وإخضاعها للاختبار. بل أكثر من ذلك أيضًا، فحتى لو بدت للجميع جيدة، يتوجب
على أحدنا أن يكون قادرًا على إخضاعها للشك. ليس الأمر سهلا، فردة الفعل الأولى التي
تراود أحدنا عندما يبدأ بالشك بوجوب تمزيق شيء ما، هي رد فعلٍ دفاعي: كيف أمزق هذا،
مع أنه أكثر ما يعجبني؟ ولكن أحدنا يمعن في التحليل وينتبه إلى أن ذلك الأمر لا يستقيم
ضمن القصة بالفعل، وإنه يشوش البنيان ويتناقض مع طبيعة الشخصية، وأنه يمضي في طريق
آخر.. يجب تمزيقه، ويؤلمنا ذلك في الروح.. في اليوم الأول. وفي اليوم التالي يكون الألم
أقل؛ وبعد يومين يصبح أقل؛ وبعد ثلاثة أيام، أقل أيضًا، وبعد أربعة أيام لا يتذكر أحدنا
شيئًا”.
الكاتب الجيد لا يُعرف بما ينشره بقدر ما يُعرف بما يلقيه في سلة المهملات. |
ويحذر ماركيز من الاعتياد عن الاحتفاظ بالأجزاء المستبعدة
بدلاً من تمزيقها:
”
حذار حذار من الاعتياد على الاحتفاظ بالأشياء بدلا من تمزيقها،
لأنه في حال بقاء المادة المستبعدة في متناول اليد، يكون هناك خطر أن يعمد أحدنا إلى
إخراجها ليرى إذا ما كانت مناسبة في لحظة أخرى”.
وعن إمكانية أن يضلّ الكاتب طريقه عبر الكتابة، رغم وجود فكرة
متكاملة للقصة، يقولُ ماركيز:
“تكون
لدينا القصة ونظن أن كل شيءٍ صار محلولاً، ولكننا ما إن نبدأ بالكتابة حتى نخطئ بالنبرة،
أو بالأسلوب. وقد يحدث أن نجد أنفسنا في طريق مسدود. ولحسن الحظ، هناك في داخلنا جميعًا
أرجنتينيّ صغير يقول لنا ما يتوجب علينا عمله”.
وعن عدم جدوى وجود منهج للكتابةِ، يقول:
“كل
قصة تحمل معها تقنيتها الخاصة. والأمر المهم بالنسبة للكاتب هو اكتشاف تلك التقنية”.
الكتاب صادر عن دار المدى، من ترجمة صالح علماني، ويقع في
584 صفحة من القطع المتوسّط.
كتبت: بثينة العيسى
المصدر: تكوين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))