Eye in Eye – Edvard Munch |
الإصرار على حيوانية الإنسان من قبل الفلاسفة في القرن الأخير،
والمقارنة الدائمة المتشائمة باستمرار بين الإنسان والحيوان، تعطيك صورة لتصور الفلسفة
الغربية الحديثة عنك. خصوصاً أن التركيز على الفروقات وما يجعل الإنسان إنسان ويتميز
به عن الحيوان شبه معدومة، لدرجة لا تشعر أن هناك ثمة فرق، فالإنسان لا يفسر إلا جنسي،
سلطوي، ويريد ابادة غيره، إذاً نحن في غابة، وهذه قد تكون نصف الحقيقة. ولكنها تظهر
لنا كما لو كانت الحقيقة الكاملة لأن الإضاءة مسلطة عليها بشكل دائم. والتسامح والتضحية
والمساعدة والعطاء، ما هي إلا عوارض. وأجد في تفسير تزفيتان تودوروف (زوج الروائية
والناقدة نانسي هيوستن) لمسلك الفلاسفة الحديث إجابة مقنعة حيث يضع السياسة كمسبب في
فهمهم للإنسان وخصوصاً النظام “الديموقراطي” الذي ينتج عنه بشكل دائم “معركة لا هوادة
فيها بين متنافسين ليس لهم تراتبية” وإسقاط ذلك كله على الشكل الاجتماعي.
يأخذ تودوروف أمر حاجة الإنسان بأن يُعترف به من قبل المجتمع
كضرورة إنسانية خالصة. فالطفل على سبيل المثال
يرضع من ثدي أمه كصغار الحيوانات الثدية،
لكن هذا لا يكفي لديه، فهو في حاجة إلى نظرة أمه، وحنانها، وعطفها، ملمسها، ومداعباتها،
وكلها تصب بالاعتراف به. ويذكر بتفصيل أكثر ومطول عن ذلك والفرق الدقيق بالاعتراف بين
الحيوانات والإنسان في كتابه “الحياة المشتركة”. وكلنا نذكر كيف أن أمهاتنا إذا غضبن
منا على سبيل المثال يكون العقاب بعدم الاعتراف، بحيث لا ينظرن إلينا خصوصاً عندما
كنا في سن مبكرة، بأن تبعد نظرها أو تضع على وجهها من جهتنا “خدادية” أو يدها كحاجز
حتى لا نراها ولا ترانا، وكان هذا يغيظنا جداً.
أن يعترف بك الآخرين ضرورة، وعند سارتر الآخرون هم الجحيم،
ولكن في وسط هذا الجحيم سعادتنا. وأستطيع هنا أن أخلط بين مقولة سارتر ونظرية تودوروف
حيث سيخرج لنا في النهاية شخصية بارزة وواضحة وهي شخصية “آنا كارينا”. وكأنها كانت
خليط عجيب من النظرية والعبارة. فقبل أشهر قليلة أذكر أني قرأت كتاب لناقد بريطاني
يدعى جون بايلي وهو زوج الروائية المشهورة آيريس مردوخ، في كتاب جميل عن تولستوي باسم
“تولستوي والرواية” يذكر فيه أن آنا كارينا كانت ترغب بأن يعترف المجتمع بها، حيث كانت
لا تجد السعادة الا باعتراف المجتمع، رغم فعلتها. تريد من المجتمع أن يقبل بخيانتها
لزوجها وأن يتفهموا حبها، وأن تسير حياتها كما في السابق بمكانتها المعروفة بينهم، لكن جميعنا يعرف كيف كانت نظرة آنا كارينا حالمة
جداً، حيث فضلت الحب على اعتراف المجتمع، وهذي هي رومنسية الإنسان الدائمة التي تتكرر
في كل أسطورة (ليت الذي بيني وبينك عامر/ وبيني وبين العالمين خراب). لكن للأسف، هذا
غير ممكن وغير حقيقي، وكتاب تودوروف “الحياة المشتركة” يحاول دعم هذه النظرية أن الإنسان
لديه “حاجة” للانخراط في المجتمع لأن سعادته لا تكمن إلا هناك، والله وحده هو من يجد
سعادته في الانعزال. إذاً آنا هي ذاك الصبي الذي يحتاج إلى اعتراف أمه حتى تكتمل سعادته،
وإن كان سيُغضب أمه فسيحصل على ذلك العقاب بدون شك، وعقاب المجتمع في روسيا زمن آنا
كارينا أودى بحبها وبنفسها تحت عجلات القطار. ولذلك نفهم لماذا الآخرون جحيم لدى سارتر
ونفهم نظرية تودورف من خلال آنّا والتي تجعلني لا أنفك من الذهول الذي يصيبني عندما
أجد في كثير من نظريات الفلسفية النفسية والانسانية عن الأنا والآخر دائماً في كيانها
وشخصيتها التي رسمها تولستوي ببراعة مخيفة.
يأتي مثال آخر جلي في الأدب، وهو أن الإعتراف بالآخر له قيمة
عليك أنت. وهذا رغم وضوحه إلا أنه غريب، حيث
لا نستطيع نسيان بطل قصة “الحمامة” لزوسكيند
الذي كان يرتعد من أقل الأشياء من حوله خارج شقته الصغيرة، ولكنه عندما خرج عرف قيمة
حياته من مشاهدته لرجلاً مقرفصاً يقضي حاجته بين سيارتين بشكل مقزز لأنه لا يملك منزلاً
يقضي فيه حاجته، هذا المنظر أعطى حياة صاحبنا (لاحظ أن غائط الرجل مصدر قيمة وسعادة)
معنى بشكل جعلت حياته مقارنةً بهذا الرجل: نعيم.
أكثر من ذلك، يخرج من أن يُعترف بنا من قبل الآخرون فرع: وهو
أن الآخر دائماً مصدر رغباتي كما عند رينيه جيرار. فلم يكن سانشو ليعرف الفروسية لولا
رغبة دون كيشوت، ولم تكن مدام بوفاري لتعرف كل تلك الأشياء عن الحب والملاهي واللذة
المتناهية دون كُتاب تلك الكتب والروايات التي كانت تقرأها. ولم يكن دوستويفسكي ليكتب
مسيحه الخاص (آلأمير ميشكن) لولا المسيح نفسه. يقول رينيه: لا يستطيع الإنسان أن يرغب
في شيء من تلقاء نفسه: إنه يحتاج إلى طرف ثالث يدله على موضوع رغبته.
لا نجد الضوء المسلط لإنسانية الإنسان والفرق بينه وبين الحيوان
إلا في الأدب. فرغم تعقيد تركيبته وتشابهه من عدمه مع واقعنا إلا أننا نجد إجابات على
ما يجعلنا نختلف عن الصورة المتخيلة عننا كحيوانات غريزية جنسية تريد أن تبيد غيرها
فقط. لا يمكن أن تكون تضحية جان فالجان، وانتحار آنا كارينا، ورغبات وخيالات مدام بوفاري،
وشخصية الأمير ميشكن، وطباع الأخوة كارمازوف، إلا إجابات ترد بشكل غير مباشر على فلسفات
نيتشه وشوبنهاور وتحليلات فرويد وغيرهم. فهذه الشخصيات المتخيلة كلها تقع في تاريخها
الخاص الموازي لتاريخ الإنسان والتي أنتجها الإنسان عندما وجد في الأدب حريته الخالصة.
في النهاية، هل يوجد أجمل من لوحة مونخ لأن تكون الشكل لمصطلح
الإعتراف من قبل الآخر؟
المصدر: مدونة سياف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))