منذ وقتٍ طويل وأنا أراجع ما ترجم من أعمال للكاتب الروسي أنطون
تشيخوف في محاولة لكتابة شيء عن آرائه في الثورات والأنظمة والسياسة، وكنت أود أن أنشر
هذا العمل في يوم ميلاده، إلا أنه من غير اللائق أن تذهب إلى أحدهم في عيد ميلاده لتتحدث
عن السياسة والأنظمة، خاصةً أنّ تشيخوف، أو أنطوشا، أو تشيخونتي كما يحب الكثيرون مناداته
بأسمائه المستعارة؛ يعد من الكتاب القريبين شخصيًا إلى كثيرٍ من الناس، وأن معظم من
يحب تشيخوف يحبه لشخصه أكثر من محبة إبداعاته في القصة والمسرح، فلماذا نحب أنطون تشيخوف؟!
نحن الذين عادةً ما ننفر من الحياة الحقيقية للكتاب!
إنّ لذة القراءة عن حياة تشيخوف الشخصية تعادل الغوص في شخوصه
الحية إلى يومنا هذا، وهذا ما كنت أفعله في بداية قراءتي له، حتى وصل بي الأمر إلى
أن أعتبره صديقي الشخصي بل تفاقم تعظيمي له برفضي الكلام المتداول عن أنه كان يحب النساء
كثيرًا، وكنت أدافع عنه بجمله التي كانت تهاجم المثقفين الذين لا همّ لهم إلا السكر
والتنظير على مجتمعاتهم، ومع هذا التعظيم وصل الأمر بي إلى حالةٍ مرضية، إذ إنني كنت
عندما يوجعني رأسي أقوم بشم الورق الأصفر من ترجماته التي طبعتها دار رادوغا، أشم الأوراق
وأضع الكتاب تحت المخدة وأنام!
يمثل تشيخوف المثقف الذي يريده الناس، إذ إنه في الوقت الذي
كان صديقه مكسيم جوركي يوجه الأدب سياسيًا، وتولستوي يوجهه دينيًا؛ ظلّ تشيخوف محافظًا
على طريقته في الحديث عن الإنسان العادي، الذي يحب ويكره ويسكر ويخون، كان يتحدث عن
الحياة الروسية الباردة، ويصرخ في وجه جوركي إن على الدولة أن تدعم المدارس والمعلمين
الذين كانوا من الطبقات المسحوقة آن ذاك، وعندما تأتي نسوة المجتمع المخملي لزيارته
ومحاولة التحدث معه في الأمور السياسية، كان تشيخوف يغير الموضوع بلباقةٍ وذكاء، ويسأل
عن الطبخ لتنسى النسوة جميع الجمل التي حفظنها عن السياسة ويبدأن الحديث عن الطبخات
الألذ، وعندما سُئل من سينتصر في الحرب، اتجه إلى الدبلوماسية وقال الطرف الأقوى، وعندما
يُسأل من الأقوى يجيب: "الذي تعلم جيدًا".
منذ ثلاث سنوات وقبيل خروجي من سوريا، مشيت دمشق بأكملها على
قدمي خوفًا من الحواجز العسكرية، بحثًا عن كتاب "دفاتر سرية" والذي ترجم
عن مجموعة من الأوراق والكتابات غير الكاملة التي وجدت عند تشيخوف بعد وفاته، وأذكر
أنني وضعته مع كتب تشيخوف الأخرى التي كانت عندي وحملته في حقيبة رميت منها نسخ كتابي
الأول، والكثير من ملابسي ليخف حملها لأنني سأسير بها الكثير من الكيلومترات على الحدود
السورية لأدخل إلى الأردن مع من كانوا يلجؤون إليه عن طريق الحدود الوعرة.
كلما كبرت أكثر، وقرأت أكثر كنت أكره الكثير من الكتاب الذين
أحببتهم في بداياتي وأستسخف محبتي لهم، لكن، ظلّ تشيخوف محافظًا على مكانته في داخلي،
وعندما تقرأ عن كتاب المرحلة التي عايشها تشيخوف تجد أن الكثير من الكتاب كانوا يكرهون
بعضهم بسبب النقلات الثقافية والسياسية المتتابعة آنذاك، ومما يذكر أن العجوز تولستوي
كان يتشاجر كثيرًا مع جوركي ولا يعجبه دوستويفسكي، إلا أنه كان تشيخوف كما أحبه الجميع،
فـ تشيخوف كان يبتعد عن اليقينيات التي كان كل طرفٍ يؤمن بها، وكان مهتمًا بالتفاصيل،
التفاصيل العادية، ولم يكن يفعل ذلك بشكلٍ عبثي، لقد طرح الأسئلة وترك باب الإجابات
مفتوحًا ولعل ذلك أبرز ما ميّز أدبه وجعله حاضرًا إلى يومنا هذا، فهو لم يكن يقل للناس
ما الحقيقة ليخدعهم كالعديد من الكتاب الآخرين المشهورين آن ذاك، فقال: "إن هدف
القصة هو البحث عن الحقيقة"، البحث هو ما جعل من أنطوشا قريبًا من الناس يصغي
إليهم جيدًا ويستقبلهم بأناقة داخلية وخارجية، حيث إنه كان حتى في منزله مهتمًا أن
يظل أنيقًا، وإن كان الضيوف مزعجين، كان يصبر عليهم، وبعد ذهابهم يلوم أهله أن سمحوا
لهؤلاء الضيوف بالمجيء!
ولعل شخصيته الطيبة جدًا والتي كانت انعكاسًا عن القسوة التي
كان يعيشها في طفولته، أثرت على محيطه الذي كان يتهيب الابتذال في حضرة تشيخوف، مع
أنه كان لينًا إلا أنه كان يكره الابتذال في الحياة الشخصية عامةً وفي الأدب خاصة،
ولم يصبه الغرور بنفسه، فكان يعترف بأنه كان يكتب في البداية كي يستطيع أن يتم تعليمه،
وظلّ يقول ذلك ويحاول أن ينتقص من قيمة أدبه، إلا أنه حقيقةً لم يكن كذلك وهذا يظهر
من خلال خوفه وربكته قبل عروض مسرحياته، حتى إنه هرب أثناء عرض مسرحية النورس!
ومع أنه ظل يتملص ظاهريًا من الأدب بوصفه العشيقة وأن الطب هو
الزوجة، كان يهاجم الكتاب الكسولين، قليلي الحيلة، البؤساء، وكان يقول للكتاب الشباب
أن يخرجوا للحياة يعملوا بها كما يعمل الجميع ويعيشوا تفاصيلها، كي يستطيعوا أن يكتبوا
أدبًا جيدًا.
حزنه كان جميلًا، شفيفًا، لم ينعكس على أدبه بصورة بكائيةٍ مقيتة،
بل استخدمه ليظهر العمق الإنساني في شخوصه الفقيرة، في كمان روتشيلد، والحوذي ايونا
بوتابوف وفرسه والأرملة في الدب وغيرهم من شخوصه التي يعاد إنتاجها مسرحيًا وبصريًا
بلغات العالم. لم يكن ناقمًا، لقد كان كما وصفته أمه في نهاية رسائلها: "يا ولدي
العزيز الذي يتحمل أي مشقةٍ بصمت".
المصدر: صوت
الترا
بقلم: أحمد قطليش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))