يُعتبر موراكامي من أبرز كتّاب جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية
في اليابان، والذي يُسمى بـ ”البشرالجدد”
(shin-jinrui)، هذا الجيل الذي تجاهل القيم اليابانية التراثية
وتقبّل ثقافة البوب الأمريكية، وفي حالة موراكامي، الثقافة الغربية عمومًا. فبعض تلك
التقديمات التي تعرض صورًا – تكثر أو تقل – من الثقافة اليابانية التي نراها عند كتّاب
يابانيين آخرين مثل كواباتا (فن الخط الياباني – تفتح أشجار الساكورا – طريقة ترتيب
الزهور التقليدية) هي شبه معدومة عنده. ليس فقط منتجات الثقافة الأمريكية، بل يبدو
أن حتى الروح الفردانية في تلك الثقافة تحضر بقوة عند موراكامي، -هذا الذي ينتمي إلى
بلد عادة ما توصف ثقافته بأنها ثقافة تُلغي الفرد على حساب المجتمع- الأمر الذي جعل
كنزابورو أوي ينتقد هاروكي بشدة خلال بداية مسيرته الروائية. ورغم إن هذه النزعة الفردانية
الانعزالية عن المجتمع ستخفف من حدتها عند موراكامي في فترة لاحقة من حياته، حيث سيحاول
أن يربط نفسه بالمجتمع بصفته كاتبًا له تأثير على شريحة قرّاء ليست بالهينة، ولا يوجد
مثال أوضح من كتابه “تحت الأرض” الذي أجرى فيه مقابلات مع ضحايا عملية الغاز السام
في مترو طوكيو عام 1995 مع إعادة صياغة هذه المقابلات بكلماته، ولكن مع ذلك تبقى هذه
النزعة حاضرة دومًا عنده. حتى في كتابه “تحت الأرض” الذي يبدو ظاهريًا بأنه عمل يهتم
بالمجتمع بالدرجة الأولى، حوّل موراكامي جموع اليابانيين التي ظلت بلا وجه بالنسبة
له إلى قصص فردية تُحكى كل قصة بشكل منفرد عن الأخرى، للمعتدي والمعتدى عليه على سواء.
ومن خلال هذا النزعة الفردانية، يعرض موراكامي أزمات شخصياته
الوجودية. ولا أبالغ لو قلت بأن الأزمة الوجودية وسعي الشخصيات في تجاوزه اهي الخيط
الرابط بين أغلب – إن لم يكن كل – كتابات موراكامي. هذا السعي للمجهول يشكل مع ثيمة
الزمن وثيمة الذاكرة الثالوث الذي ينسج به موراكامي رواياته. سأكتفي في هذا المقام
بالتطرّق للعنصر الأول.
في معالجته لموضوع الحرب – موضوع يبدو في الظاهر “جماعيًا”
– في “مطاردة الخروف الجامحة” وبشكل أوسع في
“The Wind-Up BirdChronicle” ونقده الواضح لسياسة اليابان الحربية
في غزوها لمنشوريا، يعرض الحرب وتأثيرها على الفرد أكثر من تأثيرها على المجتمع ككل،
ليس تأثيرها الجسدي فحسب بل حتى تأثيرها الميتافيزيقي إن جاز التعبير، والثانية هي
الأهم. هذه الحرب لا تترك آثارًا جسدية فقط، بل آثارًا تتعدى الجسد، لعنات تمتد إلى
الأبد. لعنة، هذا ما أقصده بتأثير الحرب الميتافيزيقي على الفرد. شخصية الملازم ماميا
في رواية “The Wind-Up Bird Chronicle” توضح
هذا: في عام 1936، كان الملازم ماميا مجرد جندي وُضع في منطقة منشوريا. طُلب منه خلال
إقامته هناك الذهاب في مهمة برفقة مجموعة بدون معرفة تفاصيل كثيرة عن المهمة. يتسلل
يماموتو – أحد أفراد المجموعة – إلى منطقة العدو ويعود ومعه ورقة. لا أحد يعلم ما هي
هذه الورقة، كل ما أخبرهم به يماموتو هو أن هذه الورقة يجب أن تُسلّم إلى الجيش الياباني
مهما كلّف الأمر. لاحقًا، تتعثر مهمة يماموتو، ويشاهد تفاصيل مُرعبة، منها سلخ جلد
أحد أفراد المجموعة أمام عينيه. الملازم ماميا فقد جزءًا من نفسه في هذه الحرب، في
مهمة لا يعلم لماذا أداها، وفي تسليم ورقة لا يدري ما محتواها، ينتهي به الأمر – كما
يقول هو بنفسه – بأن أصبح ملعونًا (يجسّد موراكامي هذا الفقدان وهذه اللعنة بأسلوب
رمزي مُذهل في واحدة من أجمل ما كتب في مسيرته الروائية : مشهد البئر ).
وهذا يقودني إلى عنصر آخر في معالجة موراكامي لأزمة الفرد الوجودية:
النزعة الجبرية. وهذا العنصر قد يبدو شاذًا من الوهلة الأولى في كتابات روائي يُنسب
عادة إلى الوجودية؛ فإذا كانت الأمور تقع ولا يد للفرد فيها؛ فما فائدة المحاولة إذن؟
هناك مصائب قاهرة تقع على رؤوس شخصياته، على اختلاف مستوى وشكل هذه المصيبة ظاهريًا،
تبدو هذه المصائب كلعنة لا مهرب منها: جندي يتورط في حرب وأثر هذه الحرب عليه (The Wind-Up Bird Chronicle)، قصة
حب الآنسة ساسكي ( كافكا على الشاطئ )، أو محبوب لا يستطيع التواصل مع محبوبته لأسباب
غير واضحة – وهذه الثيمة الأخيرة تحضر في قصص موراكامي كثيرًا – ( الغابة النرويجية
) ، ثمة غموض غريب يلف هذه المصائب (أو اللعنات)، بل حتى على صعيد بعض الأحداث المؤسفة
بالنسبة للشخصيات والأخف وطئًا من أن تكون “لعنة”، لا تبدو التفسيرات “المنطقية” مناسبة
لتبديد ضباب هذه اللعنات والأحداث المؤسفة. ويمكن -بشيء من المجازفة- القول إن
كثيرًا من الأحداث المؤسفة التي تقع لشخصيات قصص موراكامي الرئيسية والثانوية هي أحداث
لا يمكنهمـ/ن فعل أي شيء بإزائها. هي أحداث تقع فحسب. ويشدد هاروكي على عجز الشخصيات
أمام هذه الأحداث، واستسلامها أمام قدرها. هل يعني هذا أن رؤية موراكامي لحرية الإنسان
هي رؤية جبرية وسوداوية متشائمة؟ عدة أمثلة تساعد على تأكيد هذا الرأي، كما رأينا في
قصة الملازم ماميا الذي أصيب بهذه اللعنة التي لن تزول عنه أبدًا، اللعنة في هذه الحالة
هي رمز لأي شيء سيء قد يحدث لشخص ما ولا يفارقه طول الحياة، سواء أراد الشخص هذا الشيء
أم لا. يمكن أن نقف عند هذا الحد لتفسير هذه النزعة الجبرية، لكن في رأيي هذا جزء من
الإجابة. موراكامي يُريد التأكيد على هذا العنصر في حياة الإنسان، أعني أن ثمة أحداثًا
مؤسفة لا يمكن للإنسان مهما حاول وفعل أن يفلت منها، لكن الحكاية لا تنتهي عند هذا
الحد. يذكر موراكامي تشبيهًا بديعًا على غرابته: في رواية
(The Wind-Up Bird Chronicle) يعرض موراكامي قصة ماي كاساهارا،
تلك الفتاة الشابة المرحة جارة تورو أوكادا الشخصية الرئيسية في الرواية. تقابل ماي
تورو مصادفة خلال تجواله حول بيته، وتنشأ بينهما علاقة صداقة. ماي تعمل في شركة لصنع
الشعر المستعار، وفي أحد المشاهد تتحدث عن رؤوس الناس، وكيف أنها مع الوقت طوّرت عينها
ملاحظة الرؤوس الصلعاء، أو التي في طريقها إلى ذلك. تذكر لتورو كيف أن شعره يبدو خفيفًا
في مقدمة رأسه. هذه الملاحظة ليست عرضية كما تبدو، لأنها – كما أزعم – متعلقة بثيمة
موراكامي الرئيسية: الأزمة الوجودية ومحاولة الشخصيات لتجاوزها. هناك أشياء مهما فعلنا
لا يمكننا تغيير حقيقة وقوعها، الصلع في حالتنا هو رمز لهذه الأشياء. يمكننا وضع الشعر
المستعار طبعًا (أو زراعة الشعر أو أيًا يكن)، لكن لن ينفي هذا أنه حدث مؤسف يقع لبعض
الناس. ما يريده موراكامي منا هو أن نرى هذه الأحداث المؤسفة كما نرى الصلع: أمر سيء
لا بد لي في وقوعه، لكن لابد أن أكمل المسير. إذا وضعنا هذه النزعة الجبرية في هذا
الإطار، يمكننا أن نفهم كيف دمج موراكامي بين ما يظهر أنهما نقيضان: الجبرية والتأكيد
على محاولة تجاوز الفرد لمشاكله الوجودية في نفس الوقت. هاروكي لا يقول “إذا أردت شيئا
يتآمر الكون كله لمساعدتك على تحقيقه” أو أيًا من تلك العبارات التي تجعل الأمور تبدو
سهلة التحقيق؛ فكل ما يفصلك عنها هو أن تريدها. أبدًا، رؤية موراكامي أكثر سوداوية:
نعم، من الضروري أن تسعى شخصياته لحل مشاكلها الوجودية، لكن هذه الأحداث المؤسفة تحدث
بغض النظر عن سعينا ومحاولتنا، هذا السعي هو تقبّل للجرح وتصالح معه، بعبارة أخرى:
لا يعني هبوب الريح ألّا أمسك بالشراع.
وفي موضوع الأزمة الوجودية، يجب التأكيد على عنصر مهم: عصرنا
هو عصر أزمة وجودية، لا تحتاج لحدث “تحوّلي” شخصي يجعلك “تعيش” في الأزمة الوجودية
التي يعاني منها البشر الآن. أي قراءة سطحية لموراكامي ستخرج بهذا الانطباع السوداوي،
شيء لا يمكنك أن تُشير إليه تمامًا، لكنه هناك. جاثم في مكان ما في القصة. إحساس غريب
بكآبة من نوع ما، شيء كالهواء انتشارًا والعالم بأكمله ثقلًا. في روايته الأولى “اسمع
غناء الريح” تتعرف الشخصية الرئيسية على فتاة، فتاة عادية للغاية (باستثناء أن لها
يد بأربعة أصابع) تعمل في محل لبيع الموسيقى. مع ذلك، هناك ظلال سوداء تحيط بهذه الفتاة،
نوع من الثقل مجهول الهوية. وبسبب هذا، تحاول أن تنفر منه في البداية، لكن تنشأ بينهما
علاقة بعد فترة. وبعد عدة لقاءات معها يدور هذا الحوار بينهما الذي يكشف شيئًا عن طبيعة
هذا “الثقل”، تسأل الفتاة فجأة من غير مقدمات:
“لماذا
يموت الناس؟”
“بسبب
التطور. الكائن الحي الفرد لا يُمكنه تحمّل حجم الطاقة التي يحتاج إليها التطور، على
التطور أن يشقّ طريقه عبر الأجيال. بالطبع، هذه ليست إلا نظرية واحدة [من بين عدة نظريات]”
“إذن
فنحن لا زلنا نتطور؟”
“شيئًا
فشيئًا”
“لماذا
هذا ضروري؟”
“لا
يوجد اتفاق حل هذا أيضًا. الشيء الذي نعرفه يقينًا هو أن الكون نفسه يتطور. لسنا متأكدين
إن كان متوجهًا إلى جهة مُعينة، أو أن هناك قوى أعظم تتدخل، لكن الذي نعرفه هو أن التطور
حقيقة، ونحن لسنا إلا جزءًا من هذه العملية”. وضعت شرابي وأشعلت سيجارة.
”
لا أحد يعلم من أين تأتي هذه الطاقة “
“حقًا؟”
“حقًا”
حرّكت بأصبعها الثلج في شرابها وحدّقت في غطاء الطاولة الأبيض.
“اعتقد
بأنه بعد مئة عام من وفاتي لن يتذكر أحد بأنني وُجدت”
“غالبًا
لا”
هذا الحوار البسيط يكشف عن شيء مما تعاني منه هذه الفتاة العشرينية
التي تعمل في محل لبيع الموسيقى. ليست بحاجة لحدث انقلابي معين لكي “تعيش” في أزمة
وجودية. زماننا هو زمن أزمة وجودية، هي مغمورة فيها. الطريقة التي يجيب فيها بطل القصة
عن سؤال عميق ومهم مثل سؤال الموت وكأنه يشرح نظرية علمية في فصل مدرسي هي – بوجه من
الوجوه – ليست إلا عنصرًا من عناصر هذه الأزمة. الإحساس بفقد الإنسان لمركزيته وبأنه
ليس أكثر من هباءة عشوائية هو بحد ذاته أزمة وجودية. ومن هذا المنظور يُمكن أيضًا أن
نفهم “اللعنات” التي تحدثت عنها أعلاه، وفي حالة الملازم ماميا تحديدًا؛ فهذه اللعنات
ليست عقابًا لفرد بقدر ما هي نتيجة للعبث والدمار الذي تحدثه الحروب في الأرض، هذا
العبث الذي يترك آثارًا مادية وميتافيزيقية على الفرد، آثارٌ عرضية مدمرة وجد الفرد
فيها نفسه ملقى بلا اختيار. الملازم ماميا نموذج يتكرر في روايات موراكامي وإن كان
بصيغ وخلفيات مختلفة، والمصير الذي يصيرون إليه مختلف كذلك، من بين تصالح وتجاوز إلى
انتحار بلا سبب واضح، لكن الجامع المشترك بينهم هو هذا: العصر الذي نعيش فيه هو عصر
أزمة وجودية، نوع من السواد الثقيل يحيط بالشخصيات، وإن كانوا لا يستطيعون أن يشيروا
إليه تحديدًا.
مما يلفت النظر في أسلوب موراكامي القصصي هو اعتماده على الرموز
والاستعارات في تصوير خوض شخصياته لمسعاهم الوجودي، وذلك باستعمال متقن للواقعية السحرية.
(1) يقول في كافكا على الشاطئ مؤكدًا: “كل شيء في الحياة استعارة”. الخيال لا يبدو
منفصلًا عن الواقع في عالم موراكامي القصصي، بل استخدامي لكلمة “خيال” ليس دقيقًا في
توصيف “واقع” هذا العالم؛ لأنني باستعمالي لهذه الكلمة أفصل بين عالمين، وكأن هناك
عالمًا مختلفًا عن العالم الواقعي الذي تعيش فيه الشخصيات. وهذا غير صحيح؛ فموراكامي
لا يميّز بين العالمين، “فالأحداث الخيالية” في قصصه تترك أثرها الجسدي والميتافيزيقي
على الشخصيات، فهي ليست شيئًا مفارقًا بعيدًا عنها، بل بالأحرى بُعد من ضمن أبعادها،
حجرة داخل بيت. واستعماله للرموز بوصفها أداة أو طريقًا تخوضه شخصياته في مسعاها يبدو
جليًا واضحًا في كثير من قصصه. وعلى ما يبدو لسنا في حاجة إلى جهد تأويلي كبير لاكتشاف
هذا. في قصة “All God’ Children Can Dance” المنشورة
ضمن مجموعته القصصية “بعد الزلزال” التي تحكي قصة الشاب يوشيا الذي نشأ يتيمًا في كنف
أمه المبشّرة المسيحية، والذي تخلى عن إيمانه في فترة لاحقة من حياته، كان يُتمه هو
السبب الرئيسي في فقده للإيمان. في القصة، بعد مطاردة لما يظهر بأنه والده الذي لم
يراه يومًا، يصل يوشيا إلى ملعب فارغ، اختفى شبح الأب، وبقي لوحده في هذا الملعب. يتساءل
يوشيا عن سبب هذه المطاردة، عن هذا السعي خلف شبح اختفى “المعنى نفسه تحطّم ولن يكون
هو مجددًا” (ص 56) وفي لحظة غريبة، يرقص يوشيا على أنغامٍ خفية، “تندس حيوانات في الغابة
مثل رسومات في لوحة ترمبلوية (2)، بعضها وحوش لم يرها في حياته قط. عليه أن يعبر من
بينها، و[هذه الوحوش هي] التي جعلته على ما هو عليه. الوحوش [أشياء] امتلكها هو نفسه”.
(ص 58-59) تشبيه الغابة تشبيه أثير عند موراكامي، تشبيه سيحضر في عدد من قصصه، هذه
الغابة رمز في مسعى يوشيا الوجودي. من بين معمار موراكامي الرمزي، يعتبر استخدام الغابة
كرمز للمسعى الوجودي هو ما يُمكن تسميته بالـ ”معبر الرمزي”.(3)
ما أقصده بالمعبر الرمزي هو ذلك الخط الفاصل بين الخيال والواقع،
عالم ما بين عالمين، ذاك الجسر الذي يصل بين الاثنين. في” وايند آب كرونيكلز ” المعبر
الرمزي هو البئر، في كافكا على الشاطئ ومطاردة الخروف الجامحة المعبر هو الغابة، بينما
في رقص رقص رقص المعبر الرمزي هو المصعد الكهربائي، وهكذا. المعبر الرمزي طريق تسلكه
الشخصيات في مسعاها الوجودي وفي تقدّم أحداث القصة. -لنتذكر ما قلته عن عدم الفصل بين
الخيال والواقع في عالم موراكامي- الرموز تعرض بشكل واضح على أنها كذلك، لكن مع هذا،
هي “حقيقية”. أعني أن تأثيرها على الشخصيات والأحداث و”الواقع” محسوس. هذا المعبر موجود،
لكنه لا يوجد بمعزل عن عابره.
أسلوب موراكامي جزء أصيل في هذا المسعى الوجودي. يقول عن أسلوبه
إبان كتابته لروايته الأولى بأنه انبثق خلال كتابة الفصل الأول من الرواية باللغة الإنجليزية
ومن ثم ترجمتها إلى اليابانية، وبما أن معجمه اللغوي الإنجليزي لم يكن كبيرًا في ذلك
الوقت؛ فقد كتب الفصل بجمل قصيرة وبسيطة وواضحة بعيدًا عن الفذلكات اللغوية، وعندما
ترجم هذا الفصل إلى اليابانية مع بعض التعديلات بدأ هذا الأسلوب بالبزوغ: جمل مباشرة
وقصيرة تشفّ عن معاني سرابية مستورة خلف هذه الكلمات. هذه الجمل تمزج مزيجًا فريدًا
من نوعه: أسئلة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر الوجودية، مع أسلوب قصص التحقيق والجريمة
الأمريكية المباشر وأحداثها الغامضة (وهما اللونان الأدبيان اللذان يفضّلهما شخصيًا).
(4)
هذا السعي الوجودي مخلوط خلطًا تامًا بأحداث الحياة اليومية
وتفاصيلها الصغيرة، وربما هذا أبرز ملمح يلمحه القارئ في روايات موراكامي من أوّل قراءة:
السرد المكثّف والطويل للقوائم ( للمأكل –للملبس – إلخ )، ذكر الموسيقى والأفلام، أفعال
الحياة اليومية مثل كيّ الملابس، والطبخ، وقيادة السيارة، أو حتى مجرّد التحديق في
السقف والسير على الشواطئ والشوارع؛ فعلى عكس ما يؤكد عليه عدد من الوجوديين من أن
روتين الحياة اليومية يحجبنا عن رؤية الصورة الأكبر ويبعدنا عن طرح الأسئلة الكبرى،
موراكامي يريدنا أن نراها – من زاوية ما – على أنها جزء من هذا المسعى، أو على الأقل،
بأنها لا تقف كعقبة أمامنا في مسيرنا الوجودي. هذه التفاصيل حاضرة بكثافة في رواياته
لتذكيرنا بأمر هام: في هذا السعي الوجودي المقلق، سواء أحببنا ذلك أم لا، هكذا نقضي
وسنقضي حياتنا، في هذه التفاصيل الصغيرة واللحظات العابرة: في كي البنطال وطبخ السباغيتي
وقيادة سوبارو، وفي قراءة كتاب سننسى أغلب محتواه بعد شهور من قراءته، وفي الاستماع
إلى موسيقى نحب الاستماع لها بين الفينة والأخرى. من هذا المنظور، سنرى هذه التفاصيل
الكثيرة التي تعيشها الشخصيات كحلم يقظة. في نهاية المطاف، أليست حيواتنا إلا حلم يقظة
مُثقل بهذه التفاصيل؟
المصدر: حكمة
بقلم: إبراهيم الكلثم
هوامش :
(1) في رواية
سبوتنيك الحبيبة، يدور هذا الحوار في التفريق بين الإشارة (Sign) والرمز (Symbol) :
“ما الفرق
بين الإشارة والرمز؟”
جلست في الفراش ناقلًا سماعة الهاتف من يد اليسرى إلى اليمنى.
[…]
“دعيني
أفكر” قلت وحدقت في السقف. حتى عندما أكون مستيقظًا تمامًا، لم يكن تفسير شيء بشكل
منطقي لسوماير سهلًا. “الإمبراطور رمز لليابان. هل أنتِ معي؟”
أجابت: “نوعًا ما”.
“نوعًا
ما لا تكفي. هذا هو المذكور في القانون الياباني.” قلت بهدوء قدر الإمكان.
“لا نقاش
في ذلك. عليك تقبّل ذلك وإلّا لن أستطيع أن أكمل.”
” فهمت.
سأقبل ذلك.”
“شكرًا.
الإمبراطور رمز لليابان، لكن هذا لا يعني أن الإمبراطور واليابان متماثلان. هل تتابعين؟ “
” لم
أفهم!”
حسنًا، ما رأيك بذلك: السهم يتجه في اتجاه واحد. الإمبراطور
رمز لليابان، لكن اليابان ليست رمزًا للإمبراطور. تفهمين ذلك، أليس كذلك؟”
“أعتقد
ذلك”
“لنقدم
مثالُا، تكتبين الإمبراطور رمز لليابان، هذا ما يجعل الاثنين متماثلين. لذا عندما نقول
اليابان، فإن ذلك يعني الإمبراطور، وعندما نقول الإمبراطور، سيعني ذلك أيضًا اليابان.
بعبارة أخرى، يمكن وضع أحدهما مكان الآخر. تمامًا كقولنا أ تساوي ب، لذا ب تساوي أ.
هذه هي الإشارة”
” ما
تقوله هو أن بإمكاننا تغيير الإمبراطور باليابان؟ هل يمكنك فعل ذلك؟”
قلت: “ليس هذا ما أعنيه.” وهززت رأسي بحيوية عند نهاية الجملة.
“أحاول أن أشرح بأفضل ما يمكنني. لا أخطط لاستبدال الإمبراطور باليابان. هذه مجرد وسيلة
للشرح” ص 41 – 42.
(2) من ويكيبيديا:
“حرفيا يعني خداع البصر, وهو تقنية للرسم الفني, استخدمت في اليونان القديمة وفي روما.
تكمن في رسم خلفية (فن) على حائط وتبدو وكأنها حقيقية. من نماذج الترومبلويل التي تُستعمل
عادة، هي النافذة، أو الباب لإعطاء انطباع زائف بأن الغرفة أكبر”
(3) “ليس ثمة
فهم للذات لا يكون موسومًا بعلامات، ورموز ونصوص؛ ويتطابق فهم الذات في الأخير مع التأويل
المطبق على هذه الحدود الواسطة” – ريكور، مقالات ومحاضرات في التأويلية ص 14 هامش
3.
(4) “أسلوبي باللغة اليابانية يختلف عن أسلوب تانيزاكي، كما
يختلف عن أسلوب كواباتا. هذا أمر طبيعي، في النهاية، أنا شخص آخر، كاتب مستقل اسمه
هاروكي موراكامي” – Wind/Pinball، Murakami XIII.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))