كان المترجم ويليام ويفر، الذي وافته المنيّة في نوفمبر الماضي عن
عمر 90 عاماً، إنساناً عظيماً. ويعود السبب في الجزء الأكبر من ذلك إلى الدور الذي
لعبه على صعيد نشر الأدب الإيطالي في الدول الناطقة بالإنجليزية، وجعله محبوباً فيها.
وكان ويفر الأميركي يميل إلى الاعتراض كلّما أملى عليه ضميره ذلك، مع أنه أدرك أيضاً
أنّ تجاهل الصراعات الكبرى مستحيل. وخلال الحرب العالمية الثانية، انضم إلى «الخدمة
الميدانية الأميركية» كسائق سيارة إسعاف، لينتهي به المطاف كجنديّ في الجيش البريطاني.
وقد خدم في إيطاليا، وعرّض نفسه للخطر، إلا أنه لم يحمل يوماً بندقية على كتفه. وفي
سياق ذلك، جمعته صداقات بعدد كبير من الكتّاب الإيطاليين، وبقي في إيطاليا حتى بعد
انتهاء الحرب. كان «ويفر» مترجماً بارعاً، لأن المقاربة التي اعتمدها، مع كلّ نصّ ترجمه،
كانت مرفقة بهدف إيصال نبرة النص الأصلي، وإيقاعه، وغنى مفرداته، والانطباع الظاهر
فيه. (وفي حالتي أنا، كان يعمد دائماً إلى تحسين النصوص التي ألّفتها). ولكنه كان يدرك
أيضاً أنّ كبار المترجمين يتجرّؤون على الابتعاد عن الترجمات الحرفية، سعياً منهم للحفاظ
على الانطباع الشامل الذي يمكن تلمّسه في النص الأصلي. وعلى سبيل المثال، أذكر واقعةً
جعلتنا نفكّر مطوّلاً، أنا و«ويفر»، علّنا نجد طريقة لترجمة فكاهة إيطالية إلى الإنجليزية.
وفي التفاصيل، كان «ويفر» يترجم كتاب «بندول فوكو» الذي ألّفته، وقد وصل في سياق عمله
إلى مقطع، سخرت فيه شخصيّتان من ميل المؤمنين بالقوى الخارقة إلى التفكير بأن كل كلمة
تُكتَب أو تُقال لا تحمل معناها الظاهري، وإنما تخفي سراً. وفي سياق مزاحهما، راحت
الشخصيّتان تبحثان عن رموز غامضة قد تنطوي عليها مجموعات نقل الحركة في السيّارات،
مع الإشارة إلى أنّ حديثهما باللغة الإيطالية فيه تلاعبٌ على الكلام. ولا شكّ أنّ مترجماً
إنجليزياً سيعتبر هذه الحالة معقّدة منذ البداية، لأن ترجمة حرفية إلى الإنجليزية لن
تحمل تلاعباً مماثلاً على الكلام. وبعد أن استشار «ويفر» قواميسه اللغويّة، نجح في
العثور على كلمة axletree [وترجمتها
بالعربية جذع الدولاب]، بدلاً من axle [أو محور العجلات].
إلاّ أنّه واجه مشكلة عندما بدأت الشخصيتان تطلقان الملاحظات عن
«الهوائية» الغنوصيّة -وهي عقيدة توصّلت على ما يبدو إلى مستويات عالية جداً من الروحانية–
وعن «الدواليب الهوائية» في السيارات. ومن المؤكد أنّ الفكاهة المذكورة سخيفة، بيد
أنّ إطلاق الفكاهات السخيفة كان أهم ما ميّز الشخصيتين في تلك اللحظة. لقد تمثّلت المشكلة
بأنّ دواليب السيارات في الإنجليزية لا تسمّى «دواليب هوائية»، وإنّما فقط «دواليب».
وبالتالي، ما الذي كان سيفعله «ويفر»؟
لقد روى كيف توصّل إلى حلّ للمشكلة في يوميات ترجمة وضعها بعنوان
«يوميات البندول»، صدرت في مجلة «ساوث وست ريفيو» في عام 1990. وكتب أنه تذكّر دواليب
ذات علامة تجارية معروفة تدعى «فايرستون»، وفكّر في تعبير باللغة الإنجليزيّة هو philosopher’s stone أو «حجر الفلاسفة»، المأخوذة
من الخيميائيين. وبالتالي، حلّ المشكلة [بفضل التقارب في لفظ الكلمتين بالإنجليزيّة].
وورد في النسخة الإنجليزية للكتاب أن المؤمنين بالقوى الخارقة، المصابين بعمى جزئيّ،
لم يتوصّلوا بعد إلى الرابط الحقيقي بين «حجر الفلاسفة» وعجلات «فايرستون». ولا شكّ
في أنّ الصورة اختلفت عن تلك التي وردت في النص الأصلي. إلاّ أنّ مهمّة «ويفر» قضت
بإيصال المغذى العميق للنص، الذي لا يتمثل بشخصيتين تتحدثان عن الدواليب، بل بشخصيتين
تعبثان وتتلاعبان بالكلمات. ولا شكّ في أنّ القدرة على الترجمة تولد بالفطرة، وليست
مكتسبة. وقد أثبت «ويفر» مراراً وتكراراً، من خلال أعماله، أن الترجمة هي عمل قائم
على الموهبة في المقام الأول.
المصدر: جريدة الاتحاد الإمارتية
أمبيرتو إيكو مؤلف رواية «اسم الوردة»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))