مصطفى محمود (1921-2009). طبيب وكاتب وفيلسوف مصري. تنوعت كتبه
بين الدين والسياسة والعلوم والفلسفة، واشتهر ببرنامجه التلفزيوني (العلم والإيمان).
يتميز أسلوبه بالإقناع العقلي واستخدام الادلة العلمية. تحدث مصطفى محمود في كتابه
(رحلتي من الشك الى الإيمان) عن تجربته التي خاضها في رحلة بحث دينية استمرت ثلاثين
سنة، تبنى خلالها العديد من الأفكار، من ضمنها الأفكار الوجودية، حيث يقول في بداية
الكتاب:
احتاج الأمر إلى ثلاثين
سنة من الغرق في الكتب وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل والحوار مع النفس وإعادة النظر
ثم إعادة النظر في إعادة النظر، ثم تقليب الفكر على كل وجع لأقطع الطريق الشائكة من
الله والإنسان إلى لغز الحياة إلى لغز الموت إلى ما أكتب اليوم من كلمات على درب اليقين.
ثم تحدث عن بداياته في التساؤل، حيث كان يقول في سن
الثالثة عشر:
تقولون إن الله خلق الدنيا
لأنه لا بد لكل مخلوق من خالق. فلتقولوا لي إذن من خلق الله، أم أنه جاء بذاته، فإذا
كان قد جاء بذاته وصحّ في تصوركم أن يتم هذا الأمر، فلماذا لا يصح في تصوركم أيضاً
أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق.
وأنكر على نفسه تساؤله عمن خلق الخالق، وأعتبره تساؤلا
ًمتناقضاً
لم أدرك أني أتناقض مع
نفسي إذ أعترف بالخالق، ثم أقول ومن خلق الخالق، فأجعل منه مخلوقاً وفي الوقت الذي
أسميه فيه خالقاً. إن القول بسبب أول للوجود، يقتضي أن يكون هذا السبب واجب الوجود
في ذاته وليس معتمدا ً ولا محتاجا لغيره لكي يوجد. أما أن يكون السبب في حاجة إلى سبب
فإن هذا يجعله واحدة من حلقات السببية ولا يجعل منه سببا ً أولاً.
بين مصطفى محمود كيف أن تفكيره العلمي المادي البحت
قاده إلى تبني النظرية الوجودية والتي تنفي وجود الغيبيات، وتتضمن فكرة إنعدام الثنائية
بين الخالق والمخلوق، وفكرة أن الكون أزلي.
كان العلم يقدم صورة عن
الكون بالغة الإحكام والانضباط. الكون كله مبني وفق هندسة وقوانين دقيقة، وكل شيء يتحرك
بحساب، هذا الوجود اللامتناهي من أصغر إلكترون إلى أعظم جرم سماوي كنت أراه أشبه بمعزوفة
متناسقة الأنغام مضبوطة التوزيع، أشبه بالبدن المتكامل الذي فيه روح. كان العلم يمدني
بوسيلة أتصور بها الله بطريقة مادية.
في هذه المرحلة تصورت أن
الله هو الطاقة الباطنة في الكون التي تنظمه في منظومات جميلة من أحياء وجمادات وأراض
وسماوات. ولا يصح أن نسأل من الذي خلق الكون إذ أن السؤال يستتبع أن الكون كان معدوماً
في البداية ثم وجد، وكيف يكون لمعدوم كيان. إن العدم معدوم في الزمان والمكان.
وبهذا جعلت من الوجود حدثاً
أزلياً ممتداً في الزمان لا حدود له ولا نهاية. وأصبح الله في هذه النظرة هو الكل ونحن
تجلياته. وبذلك وقعت في أسر فكرة وحدة الوجود.
ولكن المزيد من التأمل والتعمق في العلم أدى به الى
رفض الأفكار الوجودية. حيث أن وحدة الخلق ليست دليل انعدام الثنائية بين الخالق والمخلوق.
الحقيقة المؤكدة التي يقولها
العلم أن هناك وحدة في الخامة، وحدة في النسيج والسنن الأولية والقوانين، وحدة في المادة
الأولية التي بُني منها كل شيء.
وكل صنوف الحياة تقوم على
الخلية الواحدة ومضاعفاتها. والخلاف بين صنف وصنف وبين مخلوق ومخلوق هو خلاف في العلاقات
الكيفية والكمية، في المعادلة والشفرة التكوينية، لكن الخامة واحدة.
وهو أمر لا يستتبع أبداً
أن نقول إن الله هو الوجود، وأن الخالق هو المخلوق. والأمر شبيه بحالة الناقد الذي
دخل معرضاً للرسم فاكتشف وحدة فنية بين جميع اللوحات، واكتشف أنها جميعاً مرسومة على
الخامة نفسها، وبذات المجموعة الواحدة من الألوان، وأكثر من هذا أن أسلوب الرسم واحد.
والنتيجة الطبيعية أن يقفز إلى ذهن الناقد أن خالق جميع هذه اللوحات واحد. وأن الرسام
هو بيكاسو أو شاجال أو موديلياني، مثلا ً.
فالوحدة بين الموجودات
تعني وحدة خالقها. ولكنها لا تعني أبداً أن هذه المجودات هي ذاتها الخالق، ولا يقول
الناقد أبداً إن هذه الرسوم هي الرسّام. تقول النظرة العلمية المتأملة لظواهر الخلق
والمخلوقات، إن هناك وحدة بينها، وحدة أسلوب ووحدة قوانين ووحدة خامات تعني جميعها
أن خالقها واحد لم يشرك معه شريكاً يسمح بأسلوب غير أسلوبه.
ثم ينفي فكرة أن الكون أزلي ليس له بداية ولا نهاية
أما القول بأزلية الوجود
لأن العدم معدوم والوجود موجود. فهو جدل لفظي لا يقوم إلا على اللعب بالألفاظ. العدم
في واقع الأمر غير معدوم، وقيام العدم في التصور والفكر ينفي كونه معدوماً. وفكرة العدم
المطلق فرضية مثل فرضية الصفر الرياضي، ولا يصح الخلط بين الافتراض والواقع ولا يصح
تحميل الواقع فرضاً نظرياً، فنقول اعتسافاً إن العدم معدوم، ونعتبر أن هذا الكلام قضية
وجودية نبني عليها أحكاماً في الواقع.
الكون إذاً ليس أزلياً
وانما هو كون مخلوق له بدء بدليل آخر من قاموس العلم هو ما نعرف باسم (القانون الثاني
للديناميكا الحرارية)، ويقرر هذا القانون أن الحرارة تنتقل من الساخن إلى البارد، من
الحرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى حتى يتعادل المستويان فيتوقف التبادل الحراريّ.
ولو كان الكون أزليّاً بدون ابتداء لكان التبادل الحراري قد توقف في تلك الآباد الطويلة
المتاحة وبالتالي لتوقفت كل صور الحياة، ولبردت النجوم وصارت بدرجة حرارة الصقيع والخواء
حولها وانتهى كلُّ شيء.إن هذا القانون هو ذاته دليل على أن الكون كان له بدء.
إن
العلم الحق لم يكن أبداً مناقضاً للدين بل إنه دال عليه مؤكد بمعناه. وإنما نصف العلم
هو الذي يوقع العقل في الشبهة والشك.
المصدر: ساقية
بقلم: سارة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))