الثلاثاء، 5 مايو 2015

القارئ العربي وخرافة الست دقائق





انتشرت في ديسمبر 2011 م احصائية صادمة انتشار النار في الهشيم مفادها أن معدل ما يقرأه العربي في السنة يقارب ست دقائق. جميع وسائل الإعلام التي قامت بنشر هذه الاحصائية، من قنوات فضائية وصحف، كانت قد أشارت إلى تقرير عن التنمية الثقافية صادر عن مؤسسة الفكر العربي كمصدر لها. كما هو متوقع، فإن هذه الاحصائية أخذت طريقها إلى الانتشار بشكل أكبر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تاركة العديد من الناس بين متأسف وغاضب لحال العرب مع القراءة. هذه الاحصائية تخبرنا بشكل أدق، أنه إن كانت 6 دقائق من القراءة سنوياً تعادل تقريباً ألف وستمائة كلمة فسيكون ما يقرأ العرب جميعهم في اليوم الواحد لا يتجاوز 4 كلمات!

لكن في الحقيقة هذه الاحصائية يشوبها الكثير من الغموض. فهي لم توضح في أي مجال تحديداً يقرأ العرب ست دقائق سنوياً؟! هل كانت الدراسة تشير إلى قراءة الرواية مثلاً، أم الصحف، أم إجمالي كل ما يقرأون؟ ثم أن ما هو أكثر أهمية مما سبق ما مصدر هذا الرقم بالتحديد؟
بعد مراجعة نسخة من تقرير مؤسسة الفكر العربي المذكور أعلاه وجدت التالي: (إن اعتبرنا أن أقل معدل للوقت الذي يقضيه الشباب العربي على الانترنت هو 365 ساعة سنوية، وإن قارنا هذا المعدل مع معدل ما يقرؤه العربي سنوياً – 6 دقائق – هكذا يصبح الفارق بين الاثنين واضح) انتهى. لا يوجد أية دليل على كيفية وصول القائمين على التقرير إلى هذا الرقم ولا حتى إرفاق أي مصدر معلوم لها. وبعد مخاطبة مؤسسة الفكر العربي قالت السيدة ثناء عطوي المتحدث باسم المؤسسة أن (الست دقائق لا ينبغي أن تتناول كرقم دقيق بل كرمز للمشكلة، هي ليست ست دقائق بالتحديد لكنها أشبه برمز!). من الممكن التغاضي عن هذا فقد يكون تناول مؤسسة الفكر العربي لهذا الرقم كرمز دلالي تم لجذب النظر لمشكلة القراءة بين العرب. لكن المؤسسة ليست وحدها من استخدم هذا الرقم. بل إن هذه الاحصائية ظلت تجوب وسائل الإعلام المختلفة والانترنت لسنوات، وكانت كثيراً ما تأتي في سياقات للدفع بعجلة القراءة في الوطن العربي، أو أحياناً على النقيض من هذا، توظف بطريقة ما لنعت العرب بالبلهاء الذين لا يقرأون! مهما كان، فعلى الرغم من القبول والتبني الواسع لها، تظل أصول هذه الاحصائية في أحسن الأحوال غامضة وفي أسوئها محل ريبة وشك!
اختر ما تريد: ست دقائق، أربع صفحات، أو نصف صفحة؟!
قبل قرابة عام من نشر مؤسسة الفكر العربي لتقريرها، تحدث فادي غندور المدير التنفيذي لأرامكس في الأردن في تيدكس رام الله قائلاً: (وصل إلينا من اليونسكو أن العرب..الأطفال العرب يقرأون ست دقائق فقط سنوياً، مقارنةً، بـ 12 ألف دقيقة يقرأها الطفل الغربي). السيد غندور الذي يرأس كذلك منظمة رواد الخيرية قام أيضاً بإطلاق حملة أسماها (ست دقائق)، وهي حملة لتشجيع الأطفال على قراءة ست دقائق يومياً لكسر الرقم الظاهر في الاحصائية. في إحدى منشورات هذه الحملة، ظهرت جملتان نسبت إلى تقرير اليونسكو لعام 2007 م جاء فيها (معدل القراءة اللاصفية للطفل في العالم العربي لا يتجاوز ست دقائق، مقارنة بنظيره الغربي الذي يقرأ ما يقارب 12 ألف دقيقة)، وجملة أخرى تقول أن العربي يقرأ قرابة ربع صفحة سنوياً مقارنة بإحدى عشرة كتاب يقرأها الأمريكي. وبعد التدقيق في مستندات اليونسكو المتوفرة على الانترنت لا يوجد أي ذكر لما سبق بأي من النسختين العربية والانجليزية. كما أن موظفاً في اليونسكو يدعى فراس الخطيب أكد لي أن اليونسكو ليس مصدراً لهكذا احصائية، وكان مما قال: (سمعت عن هذه الاحصائية مسبقاً، لكنها ليست من منشورات اليونسكو)، لكن السيد الخطيب ذكر أنه من الممكن أنها قد تكون ذكرت في إحدى الملتقيات، وأن اليونسكو من المنظمات التي ينسب إليها عادة العديد من الناس ما يقول ليضيف على حديثه الكثير من المصداقية.
قمت لاحقاً بالاتصال بالعديد من المؤسسات المدنية التي استخدمت هذه الاحصائية فكانوا جميعاً – كما يقولون – قد أخذوها من مصدر آخر لم يكن أي أحد منها صاحب هذه الدراسة.
لكن في عام 2009م أشارت بعض وسائل الاعلام إلى مصادر أخرى غير اليونسكو. ففي أكتوبر 2009م، نشرت صحيفة الخليج الاماراتية مقال اقتبس استيبان من منظمة ( Next Page ) جاء فيه أن الشخص “العادي” في العالم العربي يقرأ ست دقائق سنوياً فقط. ولعله من المثير هنا ملاحظة أن هذه الاحصائية في الصحافة الانجليزية عادة ما تنسب كلامها إلى الشخص العادي وهذا تماماً عكس ما في الصحافة العربية من أن متوسط ما يقرأ العرب “جميعهم” ست دقائق سنوياً. منظمة Next Page هذه نشرت تقرير لها صدر عام 2007 م يحمل عنوان ( ماذا يقرأ العرب؟)، وحين مطالعة التقرير نجد أنه خالياً تماماً من ذكر أي احصائية مماثلة، بل إن بعض مما جاء في التقرير قد يناقض هذه الاحصائية بشكل من الأشكال. على سبيل المثال، ورد في التقرير أن المنظمة أجرت استبياناً في مصر حول عادات القراءة، فكانت إجابة 800 من أصل ألف شخص شملتهم الدراسة أنهم يقرأون ما معدله 54 دقيقة يومياً. في الحقيقة، في طيات هذا التقرير شرح موسع حول طريقة تطبيقه وفيه العديد من التفصيلات التي من الصعب بأي حال أن نخرج منها بأن العرب ككل يقرأون ست دقائق سنوياً.
حينما سألت يانا جينوفا رئيسة منظمة Next Page عن الاحصائية ومصدرها قالت: لم نجمع هذه الأرقام! وقالت أيضاً أن تقرير المنظمة الصادر عام 2007 م كان آخر تقرير لهم في القراءة وعاداتها لدى العرب. في نفس العام وتحديداً في سبتمبر 2009 م، أشارت صحيفة الخليج تايمز إلى مصدر آخر وهو تقرير التنمية العربية الناتج عن برنامج منظمة الأمم المتحدة للتنمية. لكن هذا التقرير الصادر عام 2003 م يخلو كذلك من أي احصائية بهذا الخصوص، ورداً على استفهامنا عبر البريد الالكتروني قالت وحدة العلاقات العامة المسؤولة بالبرنامج: (قمنا بفحص كل تقارير البرنامج حول المنطقة العربية فلم نجد أي دليل لنشر هذه الاحصائية التي يبدو أنها نسبت إلينا خطأً). التقريران لبرنامج التنمية العربي اللذان نشرا تباعاً عامي 2002 م و2003 م كانا معروفان بتصويرهما غير الدقيق لثقافة العرب وعادات القراءة لديهم. في عام 2002 م، كتب كاتب الأعمدة في نيوورك تايمز توماس فريدمان عن ذات التقرير قائلاً: (إن كنتم ستعرفون طبيعة البيئة التي أفرزت بن لادن وجماعته، والتي ستنتج غيرهم ما لم تتغير. اقرأوا هذا التقرير). هذه التقارير التي ساهمت بترسيخ تلك الرؤية الدونية للحضارة العربية، تظهر أن للمستندات الرسمية مهما كانت متقنة البنية جانب مظلم، هذا تماماً ينطبق على هذه الاحصائية فبينما كانت تستخدم للفت الأنظار إلى مشكلة الأمية بين العرب والدعوة للقضاء عليها، فإن استخداماتها الأولية غالباً ما كانت سلبية.
ما قبل هذا، وفي نوفمبر 2008 م، ذكرت وكالة الأنباء الروسية ريا نوفوستي نقلاً عن صحيفة تشرين السورية أن تقرير ما للأمم المتحدة أشار إلى أن العربي العادي يقرأ أربع صفحات يومياً. وبعد البحث في الأرشيف الالكتروني لصحيفة تشرين لم نستطع تتبع أصل هذا الادعاء في أي تقرير للأمم المتحدة كما ورد في الصحيفة. كما أن هذا الإدعاء تم نشره في الصحيفة الاسرائيلية اليمينية أروتز شيفا بعد شهر من ظهوره في صحيفة تشرين في سياق ساخر من جهالة العرب كما يبدو. كما قامت كذلك مدونة عربية مطلع عام 2009م باقتباس بعض ما جاء في مقابلة مع الأمير السعودي تركي الفيصل الذي وردت على لسانه ذات الاحصائية، والذي أورد أيضاً احصائية أخرى غير قابلة للتصديق وهي أن الاسرائيلي يقرأ ما معدله أربعين كتاباً سنوياً.
على الرغم من الاستخدام المفرط جداً لهذه الاحصائية استطعت بأن أتتبع واحداً من أولى المصادر لهذه الأرقام على الانترنت وهو فيلم قصير للمخرج الأردني يحيى العبدالله. في عام 2005م، قام العبدالله بإنتاج فيلم وثائقي قصير لا يتجاوز الـ 15 دقيقة كان عنوانه “ست دقائق”، يعرض فيه إجابات الأردنيين على بعض الأسئلة الشهيرة ليبرز قلة الثقافة التي تغشى الأردنيين! لا أحد استطاع الإجابة على أي سؤال من أسئلته باستثناء سؤال عن الفنانة اللبنانية نانسي عجرم. في نهاية الفيلم، قام المخرج بإضافة التالي: (معدل القراءة اللاصفية للطفل العربي حوالي 6 دقائق سنوياً!) دون إرجاع لمصدر هذه الجملة. قمنا نحن بالتواصل مع السيد العبد الله الذي قام بدوره بذكر العديد من المصادر للاحصائية والتي تدخلنا جميعاً في نفس دوامة المصادر السابقة أعلاه. إنه من الغريب حقاً أن تكون احصائية كهذه وبهذا القدر من الرواج بلا مصدر موثوق وما هو أكثر غرابة هو تكرارها من قبل العديد من المثقفين. ظلت هذه الاحصائية مدار ألسن الكثير لسنين طويلة، التي رغم اختلاف الدوافع وراء نشرها واستخدامها دائماً ما كانت لتصل لذات الهدف ألا وهو تصوير العرب بالرجعية والتخلف، ولا أدل من هذا غير قرن هذه الاحصائية بأرقام مذهلة للآخر المميز سواء كان أوروبياً أم أمريكياً أم اسرائيلياً. في النهاية، لعله من الجائز أن رفاً ما في أحد المكاتب مليئاً بالغبار يحوي دراسة مؤكدة احصائياً تحمل نفس النتائج، لكن حتى تظهر هذه على السطح، فإن هذه الأرقام الركيكة نفسها يجب هي من تودع أحد الأدراج وتنسى.
هذا المقال ترجمة للمقال الوارد في صحيفة الخبر الالكترونية بعنوان:
The Arab Reader and the Myth of Six Minutes **
كاتبة المقال: Leah Caldwell
ترجمة: وليد المطيري
 المصدر: حكمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))