السبت، 9 مايو 2015

ابراهيم نصرالله: الكتابة عمل جديٌ، ومساحة للعب

اكتب بحريّة علمكَ وتمرَّد، لا بنزق عدم معرفتك، لأنك لن تستطيع أن تكون أفضل من الجميع وأنت لم تقرأهم!



حاورته: بثينة العيسى

 * توجد في العالم أشكالٌ لا نهائية للتعبير، لماذا اخترت الكتابة؟
اخترتها في البداية لأنها الوسيلة الأقرب إلى نفسي وربما إلى إمكانياتي، فأنت فيها لا تحتاج لأكثر من ورقة وقلم، ولكن طموحي دائما كان أن أدرس الموسيقى، وهذا ما لم يتحقق لأسباب مادية واجتماعية، وأظن أنني لو درست الموسيقى لتوقفت عن الكتابة، أو لتراجع الحيز الذي تشغله لدي كوسيلة تعبير، لكنني فيما بعد اكتشفت الرسم والتصوير والسينما، وأقمت عدة معارض وأصدرت كتابين في السينما وكتبت الأغاني، لكن هذه الفنون غدت من روافد تجربتي الأدبية عبر ممارستها التي عمقت فهمي لها، وليس عبر التعامل معها كمتذوق.

* يرى كثير من المبدعين بأن الكتابة “حدثت” لهم، كما تحدث المصادفات، أو الأقدار. كأن يكتشف طفل السادسة بأن عالما عجائبيا ينتظره كلما أمسك بورقة وقلم، هل حدث ذلك معك؟
أعتقد أن كثيرا من المبدعين يعيدون تأليف تلك اللحظة التي بدأوا فيها الكتابة، بوعي أو دون وعي منهم، ويحيلونها إلى نص من نصوصهم المكتوبة الآن. أظن أن المسألة بدأت لدي من شغفي غير العادي ببعض القصائد التي سكنتني في المرحلة الإعدادية، وبالذات القصائد القصصية، وتركت أثرا عميقا في داخلي، أو أوجدت حسا قويا غامضا لدي، فتح عيني على ما حولي فحاولت التعبير عنه وتقليد تلك القصائد في آن، ثم اكتشفت أن أفضل طريقة للتعبير عن نفسي هي هذه الطريقة. كما أن لحظة الكتابة لحظة صافية تستطيع أن تتركز فيها تماما، وتجد فيها مساحة تبعدك عن ذلك البؤس المحيط بك، أو تجعلك تتخفف من وطأته، وأعني هنا قسوة الحياة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في ستينات القرن الماضي.

* إنتاجك غزير ومتنوع، بين الشعر والرواية والدراسة وأدب الطفل، حتى أنك شاركت في معارض فنية وجربت الرسم. كيف استطعت أن تحافظ على طلاقتك الإبداعية بحيث تضمن تدفق إنتاجك الأدبي والفني طوال تلك السنوات؟
أعتقد أن منسوب الحياة متفاوت بين إنسان وآخر، وبالتالي كاتب وآخر، وأعتقد أنني عشت الكثير حلوا ومرا، وما زلت، كما أنني تعاملت مع الكتابة كعمل في غاية الجدية، رغم أنه مساحة كبرى للعب أيضا. منذ البداية أعمل على أفكار كثيرة في وقت واحد، لكن لم يسبق لي أن كتبت رواية مثلا إلا بعد سبع سنوات، على الأقل، من التفكير فيها والإعداد لها، وبعض الروايات فكرت فيها وعملت لها أكثر من عشرين سنة. هناك كتاب يكتبون ما إن تأتيهم فكرة جميلة، هذا لم يحدث معي أبدا، لأنني أعمل على مسارات، يمكن القول طويلة الأمد، وأحيانا تنضج فكرتان معا، وهذا حدث معي في روايتي الأخيرة (شرفة الهاوية) ورواية أخرى عن مدينة طبرية في سنوات الأربعينات من القرن الماضي، حين فتحت الكمبيوتر لأكتب، لم أكن أعرف هل سأكتب رواية طبرية أم شرفة الهاوية، ولكن صدف أن كتبتُ الجملة الأولى في شرفة الهاوية، فكتبتها. ولو حدث العكس لكتبت رواية طبرية. الآن لدي عدة أفكار تتصارع لتولد.
أما عن الجزء الثاني من السؤال فأظن أن المسألة عائدة إلى قدر كبير من التفاعل مع العالم ومتابعة كل جديد، وذلك التحدي الجميل الذي تفرضه عليَّ فنون أخرى غير الشعر والرواية، مثل السينما.

* في غمرة الطوفان السياسي الذي يجتاح المنطقة، منذ النكبة وحتى ما سمي بـ “الربيع العربي”.. أين نضع الفن؟
الفن في مكانه الذي وضعته البشرية دائما، عمَّ سلام واشتعلت حروب وعمّ سلام و…، وجاءت كوارث طبيعية وأمراض اجتاحت الأرض، ودائما يواصل الفن، وقد تساءلت يوما من يحرث الحقل فعلا يد الفلاح أم الأغنية التي يرددها وهو يحرث أرضه، وكذلك الأمر يمكن أن ينطبق على كل يد تبني أو تعيد بناء انهار.

* في كتابتك “تحت شمس الضحى” كنت تؤكد على حقنا بأن نكون جميلين. هل تعتقد بأن الاشتغال في الحقل الجمالي (الأدبي والفني) هو فعل مقاومة؟
بالتأكيد، فنحن مجرد (مانيكانات) بلاستيكية في الواجهات أو على الأرصفة إن لم يكن الفن جزءا أصيلا من أرواحنا. صحيح أن الفن لا يحدث انقلابات مباشرة في الحياة، لكنه يؤثر في البشر تدريجيا بحيث يغيرون الحياة فيما بعد. في الأدب الفلسطيني مثلا وجد أدب المقاومة قبل أن توجد المقاومة الحديثة في الستينات من القرن الماضي.

* إيميل سيوران يقول بأن الكتابة هي صناعة مستمرة للجرح. كافكا يقول بأن الكتابة هي انفتاح جرحٍ ما. مجنون ليلى يقول: وما أنشد الأشعار إلا تداويا. أين تجد مشروعك الكتابي، في الجرح أم في البلسم؟
في كل هذا، فنحن على الدوام بين الجرح والبلسم، بين الأمل واليأس، بين محو الذاكرة واستعادتها، وأظن أن الكتابة في الحالة الفلسطينية هي فعل وجود، نحن نكتب لنقول أيضا أننا هنا، أحياء، وقادرون على إعطاء البشرية شيئا جميلا، ولذلك هي جزء من وجودنا، ولعل جملة الصهيونية غولدا مائير تدل على أيِّ حدّ ترعبهم كتابتنا، فقد قالت ذات يوم: لو كان الفلسطينيون شعبا لكان لهم أدب. الآن لا يستطيع أي زعيم صهيوني أن يقول بأن الفلسطينيين ليس لهم أدب، وكلما أثبتنا أن لنا أدبا كبيرا وفنا كبيرا أثبتنا بأننا شعب لا يمكن أن يتجاهله أحد. بالجمال نقاوم فعلا كما قاومنا بالحجر وبالسلاح.

* هل توجد ملامح واضحة ومحددة، وربما طقسية، للفعل الكتابي بالنسبة لك؟ هل لديك روتين كتابي، عادات معينة، مكانٌ محدد للكتابة؟
لدي طقوسي البسيطة: حين أكتب لا أسافر أبدا؛ أكتب كل يوم حين أبدأ بمشرع حتى أيام الجمعة، حتى أنهيه؛ يلزمني الهدوء فقط؛ في الماضي كنت أكتب صباحا وبعد أن تفرغت للكتابة، منذ سبع سنوات، أكتب مساء أيضا؛ وخلال فترة الكتابة لا أقرا كتبا، في الليل أشاهد أفلاما.

* هل تخطط قبل كتابة رواياتك، أم أنك تكتشف الرواية وأنت تكتب؟
أخطط بالتأكيد، لكنني أحضِّر كثيرا وأعايش فكرتي كثيرا، لكن رغم ذلك حين أبدأ الكتابة أكتشف أنني لم أستخدم أكثر من عشرين بالمائة من الأشياء التي حضرتها أو خططت لها.

* ما هو أكثر نص أرهقتك كتابته؟
كل نص مرهق عموما، هناك النص الذي تخشاه، فتظل تؤجله، وهناك النص الذي تمضي فترات بحثية طويلة من أجله، وهنا النص الذي قد يدمر أعصابك لفرط معايشة لحظاته القاسية، ولولا ذلك الخيط الدقيق من المتعة في أنك تبتكر شكلا جديدا وشخصيات لم يكن لها وجود لكانت الكتابة أمر قاسيا فعلا.

* ماذا تقول لكاتبٍ شاب قرر أن يبدأ مشروعه الإبداعي الأول؟
اكتب بحريّة علمكَ وتمرَّد، لا بنزق عدم معرفتك، لأنك لن تستطيع أن تكون أفضل من الجميع وأنت لم تقرأهم!

* يقول إرنستو ساباتو: ليس هناك من رواية عظيمة لم تكن في المحصلة شعرًا. وبصفتك صاحب تجربة سردية شعرية مترامية الاتساع، كيف تجد العلاقة بين السرد والشعر؟
أظن أن جملة ساباتو العظيم في الصميم، فهو لا يتحدث عن الشعر باعتباره لغة بل باعتباره كثافة استثنائية لوجود العمل الأدبي ككون جمالي، ولوجود الكائنات التي تسكنه كذوات بالغة الدلالة والعمق، وباعتبار الحدث ليس واقعة، بل جوهر اللحظة البشرية في لحظة التقاء أو اصطدام الإنسان بأي شيء حوله أو فيه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))