ثمة رواية جديدة لهاروكي موراكامي. تكفي العبارة السابقة للتأكيد
أن هذه الرواية، لو تُرجمت إلى العربيّة، فستحقق المعادلة الأصعب في فضاء سوق النشر:
رواية «بست سيلر» ذات مستوى فني عالٍ. لعل موراكامي (1949) هو أحد الكتّاب القليلين
أيضاً، ممن حققوا انتشاراً عربياً (وعالمياً) في فترة قصيرة نسبياً،
كما أنه صاحب الحظوظ
الأبرز في الترشيحات لجائزة «نوبل» كل عام، أكان ذلك على مستوى النقّاد أو القرّاء
العاديّين. لا تخرج روايته الجديدة «تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات رحلته» (2013)
Colorless Tsukuru Tazaki and His Years of Pilgrimage عن
التوصيفات العامة لعالم موراكامي الأدبي. ثمة حضور ثريّ للسورياليّة، الأحلام، الجنس،
التأمّل، الفلسفة، الموت، والموسيقى... الجاز على نحو خاص، بل ربما كانت هذه هي الرواية
الأشد تكثيفاً لكل هذه الثيمات، كما لا تبتعد كثيراً عن الأسلوب الكافكاويّ ابتداءً
من الجملة الأولى «في ليلة سبت، كان تسوكورو وهايدا يتحدثان في وقت متأخر، كعادتهما،
عندما انتقلا إلى موضوع الموت»، أو في الصفحات الأولى التي تلخّص حوارية رائعة عن معاني
الحياة والموت وعالم الدنيا وعلاقته بما بعد الموت.
يمتد هذا الانتقال المفاجئ في الأحداث والكلام على طول الرواية
التي تروي حكاية تسوكورو تازاكي التي كانت اعتيادية، وتحوّلت فجأة (كما في معظم روايات
موراكامي) لتصبح رحلة بحث غرائبية عن الحقيقة. لم يكن تسوكورو يتوقع أن السنة الثانية
في الجامعة ستكون هي «الخرق»، الذي سيكسر رتابة حياته، لتبدأ حياته الأخرى، أو «وضعه
الفلسفي» لو استعرنا اصطلاح الفيلسوف الفرنسي ألان
باديو.
كان هو العضو الخامس «المميز» في مجموعة أصدقاء الطفولة والمراهقة،
ليقرر أصدقاؤه الأربعة فجأة قطع علاقتهم به. لم يكن التميّز لديه إشارة إلى أي سمة
إيجابية (أو سلبية حتى)؛ إنه مميز كونه «مختلفاً»، فهو الوحيد الذي لا تحمل كنيته دلالة
لونيّة، على عكس أصدقائه الأربعة، وشخصيات أخرى سيلتقيها لاحقاً؛ إنه «عديم اللون»
الذي تلاشت ألوان حياته كلياً، بعد اسمه، ليصبح عديم اللون والهوية والحياة.
سنتابع رحلة بحثه عن سبب ترك أصدقائه له، بعدما جاءته الفكرة
بإلهام من إحدى صديقاته، بعد 15 عاماً، وبعدما حاول تشكيل «هوية» جديدة، حين اعتقد
بأنه وجد شغفه الحقيقي في الحياة الواعية عبر تصميم محطات القطار، أو اللاواعية عبر
انغماسه في الجنس واقعاً وأحلاماً. تمتد هذه الرحلة التي تنأى عن أي توصيف محدد (كلمة
pilgrimage في العنوان الإنكليزي للرواية ذات دلالات متعددة
تبدأ بالرحلة البسيطة، مروراً برحلة الحج، وصولاً إلى الحياة بذاتها كرحلة بحث عن الذات) في الجغرافيا والزمن من اليابان وصولاً إلى
فنلندا، ومن الماضي إلى الحاضر إلى عالم الأحلام الموازي، على طول الرواية التي تبقى،
كروايات موراكامي الأخرى، من دون نهاية واضحة.
يشير معظم النقّاد إلى أن جذور الروايات الأخيرة لموراكامي
من دون أن نستثني «تسوكورو تازاكي» أو ثلاثيته «1Q84»
التي صدرت بين 2009 و2010، تمتد إلى رواياته الأولى أو إلى
عالم الجاز، ولكن القراءة المدقّقة لرواياته الأخيرة تُظهر أنّ الأسلوب يمتد رجوعاً
إلى مجموعته القصصية المذهلة «صفصاف أعمى، امرأة نائمة» (2006) التي تتضمن قصصه المكتوبة
خلال ربع قرن (1980_2005). في تلك المجموعة بالذات (لم تترجم إلى العربية للأسف لاعتبارات
النشر الساذجة التي تُقصي القصة لمصلحة الرواية) نجد التفاصيل الصغيرة لعالم موراكامي
الروائي والحياتي. سنجد جوهر السوريالية التي تميّز موراكامي، وتجعله بمثابة الياباني
الذي لا يشبه إلا نفسه. سنجد في تلك القصص روح موراكامي الذي يصنّفه النقّاد بوصفه
كاتباً أوروبياً أكثر من كونه يابانياً، بينما هو، عملياً، يحاول خلق اليابان الخاصة
به بكل صخبها بعيداً عن كل أصداء اليابان التي وصلتنا منذ نصف قرن عبر أدبائها المكرّسين.
لم يكن صاحب مقهى وبار «بيتر كات» للجاز، ابن التاسعة والعشرين،
يطمح ليكون كاتباً برغم دراسته للمسرح في الجامعة، وترجمته أعمالاً أدبية من الإنكليزية
إلى اليابانية، لكن بعد مشاهدته لمباراة بيسبول عام 1978، أدرك موراكامي أن بوسعه أن
يكون كاتباً. وابتداءً من روايته الأولى «اسمع الرياح تغنّي» (1979)، بدأت رحلته الخاصة
للبحث عن ذاته في الكتابة. كانت «الغابة النرويجية» (1987) هي التي أطلقت شهرته المدوّية،
لتكرّسه أحد أهم كتّاب اليابان الجدد، برغم الانتقادات التي طاولته من بعض الأدباء
المكرّسين بوصفه «ليس يابانياً بما يكفي». وبعد نشر روايته «كافكا على الشاطئ»
(2002)، أصبح موراكامي أحد المرشّحين الدائمين لجائزة «نوبل»، ليقل إنتاجه لاحقاً ويقتصر
على ثلاث روايات خلال 12 عاماً، ربما ليؤكّد تعليقه على «نوبل» بالقول «لا أريد الجوائز.
إنها تعني أنك قد انتهيت».
يفضّل «كافكا اليابان» العزلة في حياته الشخصية والأدبية،
كما لا يحبّذ السفر خارج اليابان باستثناء السنوات الثلاث بين 1992_1995 التي قضاها
كاتباً زائراً في بعض الجامعات الأميركية. مع ذلك، لم تخل حياته من الأحداث المثيرة
للجدل، بخاصة بعد تلقّيه «جائزة القدس» عام 2009، إذ تزامنت الجائزة مع العدوان الإسرائيلي
على غزة، لكنه أصر على قبول الجائزة وحضور المراسم رغم التظاهرات التي شهدتها اليابان
ضد العدوان الإسرائيلي، والداعية إلى وجوب مقاطعته للكيان الإسرائيلي ورفضه للجائزة.
ولكنه سافر إلى القدس ليلقي كلمة «تقريعية لسياسات إسرائيل»، مكتفياً بالقول «إنّ كلاً
منا يمتلك روحاً حية ملموسة، لا يمتلكها النظام. ويجب ألا نسمح للنظام باستغلالنا».
يزن الحاج
المصدر: موقع
الأخبار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))