الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

هاروكي موراكامي: أن تكون كاتب.. وأكثر




أشياء مثل هذه تحدث تماما، تحب شخصا لم تراه، تصدق الخرافات وخوفك الداخلي، تعطي فرصة لهواجسك باكتساح عقلك. سأخبرك شيئا.. أنا غارقة في حب تورو واتانابي.. وقبيل صفحات من انتهاء قصتي معه، لازلت أستمع إلى أغنية "ذا بيتلز – الغابة النرويجية" وأمطّ الوقت كي يبقى لأطول وقت ممكن.

تورو، هذا الشاب الأنيق البسيط المثقف، عادي الوجه جذاب الملامح، ينتقي موسيقاه بعناية شديدة، ويقرأ كما يتنفس. تورو الذي يحب فيذبل، وتختفي ملامحه ويضمر جسده، ويساعد المرضى ويمنحهم الحياة في لحظاتهم الأخيرة، ويحب فتاته بإخلاص شديد لدرجة الاضطراب، تورو واتانابي هو أحد أبناء هاروكي موراكامي الكاتب الياباني الشهير، أحد شخصيات روايته "الغابة النرويجية".

مر زمن طويل منذ أن شعرت بهذا لإحساس، كان ذلك عندما قرأت عنوان كتاب هاروكي "رقص رقص رقص"، الكتاب الذي أصابني بشغف شديد لمعرفة محتواه، كنت أدرك عن بعد أنه لا يتحدث عن الرقص بمعناه المباشر، وإنما عن الرقص الروحي، رقصة الحياة بنا ورقصتنا معها.

منذ أن قرأت لهاروكي أول مرة أصبح لي صديق جديد، ربما كلمة صديق هنا في غير محلها فهو أكبر، هو مُعلّم، وقدوة، وشخص مثير للريبة والشك، وغريب فعلا. تنساب الأفعال الشيطانية منه باعتيادية، وتجد الكلمات المهجورة طريقها إلى فمه بحلاوة وعذوبة، حتى غير المقبول في باطن عقلي أصبح مقبولا عندما أقرأ له، هو كاتب يستطيع أن يقنعك أن الشيطان يجلس في الغرفة التي جوارك، ويدفعك للذهاب نحوها وفتح الباب. بمجرد ما انتهيت من قراءة أول رواية له، أيقنت تماما أنه أصبح لي صديق تجتمع فيه كل الأشياء التي أحبها.

أتذكر المرة الأولى التي قرأت فيها لهاروكي، شعرت أنني أكتب، أو كأن هذا كتابي وسُرق مني في غفلة وتم نشره باسم شخص آخر، أو أن هذا ما سأكتب مثله في المستقبل. سألت نفسي، إلى أي مدى يشبهني هذا الشخص؟ وهل هي مجرد صدفة أن يتشابه أسلوبنا في الكتابة حتى هذا الحد؟ في الحقيقة كنت أكذب، كان هاروكي أجمل مما تخيلت، أو ربما كان أنا في المستقبل، هو صورة لما أتمناه، هو واقع لحلم الكتابة جميل.

يكتب هاروكي فيخفت صوت الكون بالتدريج، لا تستمع إلا لأصوات شخصياته، المهزومين، الضعفاء، الذين يرتكبون أخطاء ويعترفون بها ويعلمون أنهم بذلك أسوياء في عالم غير الأسوياء، الذين يعترفون بنقصهم وحيرتهم وغباءهم، وشهوتهم الجامحة، الوقحة أحيانا، الصادقة دائما. أشخاص لم أقرأ مثلهم من قبل، في عفويتهم وطريقة تسميتهم للأشياء، تمنيت أن أقابلهم جميعا، كيكي، يوكي، تورو واتنابي، ناوكو، رايكو إشيدا، كيزوكي، ميدوري، ناغاساوا، إيتوه،.. تمنيت أن أقابل أشخاص مثلهم وأن يصبحوا أصدقاء لي، لقد خلق لي هاروكي ورطة مصادقة أشخاص لا أعرفهم، وبقدر ما هذا شيء عبقري للكاتب – أن يخلق لك أزمة من لا شيء – إلا أنه شديد الإيلام للقارئ، الذي يخشى أن ينتهي من الرواية ويفقد أصدقاء جدد.

مع كل رواية لهاروكي وجدت قطعة من نفسي، كنت أهلل مع أجزاء "ها أنا ذا.. إنه يكتبني !" لست وحدي التي أفكر هكذا، لست وحدي من يتصرف هكذا، هناك أناس مثلي في كوكب آخر، كوكب اليابان ربما، كوكب هاروكي بالتأكيد، أنا لست وحيدة وهذا اكتشاف عظيم. جعلني ذلك أقع في حالة حب مع شخص لم ألتقيه حتى الآن لكنني أرغب وبشدة في ذلك، ولا أعرف السبب.. ربما لأسأله عن أصدقائي الذين فقدتهم مع كل غلاف رواية، ومع كل ضربة في الواقع، أو بحثا عن أصدقاء جدد في عالمه.

عندما يحزن هاروكي لا يكتب عن الحزن، بل يكتب الحزن نفسه، لا يزين أو يجمل الواقع، هو حزين ويكفي ذلك لأن يدخل في حالة من المزاج السيء وفقدان الاستمتاع بالطعام، والقراءة لسد شهية العقل لا أكثر. كلماته حقيقية تماما كالألم، تخرج من بين الورق لتلمس يدك، وقلبك، كما أنها لا تتوقف حتى تصيب فيك جزء ما، شيء ما، جرح ما، تصفعك بقوة، فيصبح كل الألم الذي ستعانيه بعد ذلك هيّن.

أحببت أصدقاء هاروكي، أصدقاء لمجرد الصداقة ليس إلا، نحكي ما يؤلمنا دون خجل، نأكل ونذهب للسينما، نرسل خطابات إلى بعضنا حين نغيب، ونشتاق.. نشتاق جدا، ربما صديق بمرتبة حبيب، أو العكس. هو ناجح تماما في أن يقدم لأي فتاة رجلا تلتهمه كله، بإحباطه وفشله قبل رومانسيته وطيبته.

القراءة لهاروكي تشبه المشي على الشاطئ، تلوّث قدميك بالرمل، تنتقل من مكان لآخر لتلتقي بصدفة، بلؤلؤة، بسمكة ذهبية هربت من البحر، بجنيّة روايات، بحجر ملوّن، بقصر بناه طفل على الرمل وتركه، بخطّين يسجلان اسما عشيقين على الرمل، بمركب تنتظر، وقارب تطفو وحيدة، بموجة غاضبة، وأخرى تحاول تهدئتها، بصخرة تأبى الذوبان، بهيكل سمكة ميتة، وملح ناصع البياض، برسالة في زجاجة من شاطئ آخر، بعاشق هادئ، ومسالم، ووحيد، يجلس على أعلى نقطة وأبعد مكان.

من يقرأ لهاروكي يعرف أن بين يديه كنز أكبر من مجرد كتاب، وأن هاروكي نفسه أكثر من مجرد كاتب، الكتاب – أي كتاب - مليء بأشخاص من لحم ودم، ومعزوفات وقطع موسيقية نادرة وجميلة وعذبة، واقتراحات لكتب أخرى رائعة وتحذيرات من كتب مُخيّبة للآمال، وأماكن يجب أن تزورها، وحقائق يختصر عليك الزمن ويخبرها لك، وحكمة لا يرفع العصا كي يعلمها، ونهم للحياة ولمتعتها، وزهد فيها إذا كانت بلا حُب.

مع كل نهاية رواية، لا أقول لك "مع السلامة"، بل أقول "إلى اللقاء".. سأفتقدك كثيرا حتى الكتاب المقبل.
بقلم: بسمة العوفي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))