السبت، 28 فبراير 2015

في الغرفة 101



في رائعة جورج أورويل الشهيرة (1984)، والتي لا نكف عن الاستشهاد بها كلما تكلَّمْنا عن الخيال العلمي أو القمع السياسي أو الدكتاتوريات، يقع بطل القصة ونستون في قبضة السلطات الحكومية والأخ الأكبر، وهو يعرف يقينًا أنه ميت … لا أمل له … فقط سوف يحدث هذا بعد أيام أو بعد أعوام. يقابل هناك شاعرًا يُدعى أمبلفورث …
هذا الشاعر ارتكب خطيئة عظمى؛ هي أنه تَرَكَ لفظة God في قصيدة ولم يَقُم بتغييرها. يكون عقابه هو أن يذهب إلى الحجرة 101. رجل آخر صدر ضده الحكم بالذهاب إلى غرفة 101 فراح يتوسل في هلع وقد صار وجهه أخضر حرفيًّا :

أيها الرفيق! أيها الضابط! لا يجب عليك أن تأخذني هناك … أَلَمْ أَقُلْ كلَّ شيء بَعْدُ؟ سأوقِّع على ما تريدون! لكن ليست غرفة 101. ليس هناك من شيء لن أفعله … سأسلِّم لكم أي شخص تريدون … إن لديَّ زوجتي وثلاث بنات أَكْبَرُهن في السادسة من العمر … خذوهن واقتلوهن أمامي لو أردتم … لكن ليس الغرفة 101!


عندما يسأل ونستون عن كُنْهِ الغرفة رقم 101 تكون الإجابة: «أنت تعرف ما في الغرفة 101 … الجميع يعرف.» عندما يعرف ونستون في النهاية محتوى الغرفة رقم 101 يكتشف أنه أسوأ شيء في العالم … ما هو أسوأ شيء في العالم؟ الإجابة ليست سهلة؛ لأنها تختلف من شخص لآخر. بين الموت حرقًا أو غرقًا أو على خازوق … بالنسبة لبعض الناس هو شيء بسيط وربما ليس مميتًا. بالنسبة له كانوا يعرفون بالضبط ما يثير هلعَه: الفئران! قفصٌ يشبه القناع يُوضَع فوق وجهه … في القفص فأر ضخم أجرب مسعور لا يفصله عن لحم ونستون سوى باب حديدي يمكن نزعه. قالوا له: «ليس الألم كافيًا وحده … أحيانًا يتحدى المرء الألم حتى وهو يموت … لكن بالنسبة لكل إنسان هناك ما يتجاوز حَدَّ الجُبن والشجاعة … حين تسقط من جبل فليس من الجُبن أن تفتش عن حبل … إنها غريزة … الفئران نوع من الضغط لا تستطيع تحمُّله؛ لهذا ستفعل ما نطلب منك

وهكذا يجد ونستون نفسه في وضع يجعله مستعدًّا لعمل أي شيء … في النهاية يطلب منهم متوسلًا أن يضعوا هذا القفص على وجه جوليا حبيبته الوحيدة بدلًا منه … تكون هذه هي الإجابة التي أرادوها، ويُطلِقون سراحه … لقد أحب الأخ الأكبر أخيرًا. صحيح أنه سيموت عمَّا قريب، لكنه سيموت وقد عرَف الصواب … لقد خلَّصُوا رُوحه

عندما قرأتُ هذه القصة خطَرَ لي أن لكل واحد منا غرفته رقم 101 … كل واحد منا يملك كابوسه الخاص … هذه الغرفة موجودة في نهاية دهليز طويل مظلم، يقبع في أحد سراديب اللاوعي، وأنت تداريه بأطنان من النسيان … تحاول أن تتجاهله … لكنك تعرف أنه موجود … الخوف كل الخوف أن يجرَّك أحدهم من يدك ويضعك في هذه الغرفة.

في فيلم «وجهًا لوجه» الذي قدَّمه السويديُّ إنجمار برجمان، يحاول الطبيبُ النفسيُّ معرِفَة سبب اضطراب الممثلة الكبيرة ليف أولمان … ترجع بذاكرتها لخبراتها الأولى مع الكلوستروفوبيا … كيف حبسَتْها أمُّها في خزانة مكتب ضيِّقة لتعاقبها، ومن الغريب أنها اتخذت نفس الوضع الذي كانت فيه وهي طفلة، وراحت تضرب الجدران وتصرخ بصوتٍ طفوليٍّ مناديةً: «ماما … ماما …» لقد نجح الطبيب في أن يأخذها إلى الغرفة 101.

موت الأب أو الأم هو الغرفة رقم 101 لكثيرين … قضيت ساعات عصيبة جدًّا في طفولتي وأنا أتخيَّل ما سيحدث لو فقدتُ أحد هذين العزيزين، وقد حدث هذا فعلًا في عامَيْ 1978 و1991 للأم والأب على الترتيب … لكن الأمر تمَّ بسرعة ورحمة نسبية، ولو كانت هناك مزية لهذه الكارثة فهي أنها لن تحدث ثانية. لن يتصل بي أحدهم بعد منتصف الليل ليقول لي إن «الحاجة» ليست على ما يُرام أو لا تتكلم … أو

الغرفة 101 لكثيرين هي الدفن حيًّا، وأعتقد أنه ألعن كابوس يمكن تخيُّلُه … كان أحمد شوقي يخشى الموت جدًّا؛ لذا كان يضع أجهزة الإنقاذ وأسطوانة أكسجين في غرفة مجاورة، وقد أوصى مرارًا بأن يتم فحصه عدة مرات قبل الدَّفْنِ؛ خشيةَ أن يذهب للقبر حيًّا. اشتهر لورد بيرون الشاعر البريطاني كذلك بالخوف المَرَضِي من الموت؛ لدرجة أنه كان يضع مسدسًا تحت الوسادة حتى يواجه الموت لو جاء ليلًا

المرض … الشلل … العجز … التشوُّه … المرتفعات … هي الغُرَف 101 لأكثرنا

الخوف قد يكون حارسًا للفضائل، وهو ما شرحه يوسف السباعي بشكل ممتع في رواية أرض النفاق. عرفتُ أشخاصًا محترمين جدًّا ذوي شأن في المجتمع، وهم يَتُوقون للعلاقات العاطفية المحرَّمة … لكن صورة رجال شرطة الآداب يحيطون بهم وهم ملفوفون بالملاءة، وينزلون في الدَّرَج بينما يحيط بهم الفضوليون المستمتعون بالمنظر. هذا المشهد هو غرفتهم رقم 101 ويجعلهم ذوي خلق قويم!

أعتقد أن الخوف من الاغتصاب والخوف من الغرباء هو الغرفة 101 لعدد كبير جدًّا من الفتيات، نضيف لهذا الفئران بالتأكيد ما دمنا نتكلم عن 1984. الغرفة 101 لكثيرين هي الإفلاس … وهي الاعتقال السياسي … أو الفضيحة بكل أنواعها.

هناك حالات فريدة جدًّا من الغرفة 101. مثلًا عرفتُ رجلًا يخاف الدُّمَى بشدة ويؤكِّد لي أنه سيُجَنُّ لو سُجِنَ في غرفة مع مجموعة من الدُّمَى، تُحملِق فيه بعيونها الميتة الخرساء، وهو يعتبر من يعملون في محلات الأزياء مع دمى العرض أشجع الشجعان … يسمون هذا Uncanny valley. هناك صديق اعترف لي أن أشد ما يخشاه هو أن يجد نفسه في المطار … مكان واسع ممتد أشبه بالمتاهة، وهناك أصوات مدوية من مكبرات الصوت كل لحظة … الحقيقة أن هذه هي الأجورافوبيا أي الخوف من الأماكن الواسعة المفتوحة، لكن الغريب أن يتضخم هذا الخوف ليكون الغرفة 101.

هل يمكن أن تغلق الغرفة 101 الخاصة بك؟ إجابة صعبة جدًّا. بالنسبة لي أغلقتُ الغرفة تلقائيًّا عندما تُوُفِّيَ أبي وأمي، لكنَّ هناك غرفًا ستظل موجودة للأبد ولا يجدي أن تدخلها لتواجه مخاوفك … كيف تنصح من يخاف الحرق أو الغرق أو الدفن حيًّا؟ كيف تنصح من يخشى الشلل أو التشوه؟

السبيل الوحيد للحياة مع الغرفة 101 أن تنسى أنها موجودة … لا يوجد سبيل لغلقها ولا يوجد ما يضمن ألَّا تُضْطَرَّ لدخولها. انْسَ أنها هنالك، والأهم ألا يعرف الناس من حولك ما يوجد فيها؛ فهم بذلك يستطيعون السيطرة عليك بشكل كامل.
 

أحمد خالد توفيق


2 فبراير 2015


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))