الخميس، 26 فبراير 2015

رضوى عاشور: أكتبُ لأني أحبّ الكتابة!


أكتب لأني أحب الكتابة، أقصد أنني أحبها بشكل يجعل سؤال “لماذا ” يبدو غريبا وغير مفهوم.

ومع ذلك فأنا أيضا أشعر بالخوف من الموت الذي يتربص، وما أعنيه هنا ليس فقط الموت في نهاية المطاف ولكن أيضا الموت بأقنعته العديدة في الأركان والزوايا، في البيت والشارع والمدرسة، أعني الوأد واغتيال الإمكانية.

 أنا امرأة عربية ومواطن من العالم الثالث وتراثي في الحالتين تراث الموءودة، أعي هذه الحقيقة حتى العظم مني وأخافها إلى حد الكتابة عن نفسي وعن آخرين أشعر أنني مثلهم أو أنهم مثلي .

ولدت عام 1946 في بيت يقع على النيل في جزيرة منيل الروضة، و قضيت طفولتي المبكرة في شقة بنفس المنطقة تطل شرفتها على كوبري عباس الذي فتحته قوات الشرطة، قبل ولادتي بثلاثة أشهر، على الطلبة المتظاهرين فحاصرتهم عليه بين نيرانها و الماء.

ألحقني أهلي بمدرسة فرنسية حيث معلمات يدعون مدام ميشيل و مدموازيل دنيز ومدام رازوموفسكي وتلميذات يحملن أسماء فرانسواز ومايرون وميراي وإنجريد . وكنا نحن الفاطمات نعامل على أننا أقل، لم يُقلْ ذلك أبداً في كلمات ولكنه كان يسري في المكان كالهواء الذي نستنشقه دون أن نراه أو نعي حتى وجوده.
الكتابة بالنسبة لي علاقة بأمور ثلاثة: علاقة بالواقع المحيط، وعلاقة باللغة ومن ورائها التراث الثقافي والأدبي المتجسدين فيها ومن خلالها، وعلاقة بحرفة الكتابة والخبرات المكتسبة في الورشة اليومية .
 كنت في العاشرة حين أعلن عبد الناصر تأميم القنال، أذكر بحة الصوت وإيقاع الكلمات كأنما سمعتها للتو من ذلك المذياع الخشبي في القاعة البحرية في بيت أهلي بالمنيل، كان الصوت يفسح للطفلة المنصتة أرضا تخطو عليها مخلفة وراءها العيون التي تتعالى و تزدري.

في تلك الفترة، أو ربما بعدها بقليل، بدأت الكتابة، كتبت قصائد ركيكة مكسرة الأوزان و قصصا ساذجة تترجم الأفكار إلى شخصيات وتصنع أحداثا من مواقف ذهنية، وقرأت الصالح والطالح مما أتيح لي: نصوصا مترجمة لديكز والأختين برونتي وأجاثا كريستي وآرثر كونان دويل ونصوصا عربية لنجيب محفوظ وجورجي زيدان ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس، قرأت بنهم واستمتاع وبلا أدنى تمييز بين قيمة نص وآخر.

 كنت أشعر بالانبهار أمام قدرة الإنسان على إنجاز كتاب أو لوحة وكنت أتطلع إلى أمي بإعجاب شديد إذ كانت قبل زواجها قد كتبت بعض القصائد (تترنم بأبيات منها أو تغنيها و هي تحميني) ورسمت لوحات زيتية ما زالت معلقة على جدران بيتنا في المنيل، ولما تسلل إلي السؤال ما الذي حدث.. لماذا توقفت؟! ارتبكت.

 وأنا طالبة في المرحلة الثانوية دعت المدرسة محمود تيمور مرة و بنت الشاطىء مرة، استمعنا إلى حديث كل و حاورناه، والتقيت مصادفة في احدى مكتبات القاهرة بالعقاد فصافحته وهو طبعا لا يعرفني، وبدت لي تلك اللقاءات مثيرة وباهرة، ليس لأنني كنت طبعا معجبة بهذا الكاتب أو تلك الكاتبة تحديدا ولكن لأن فعل الكتابة كان يضفي هالة على صاحبها فلا أملك – في تلك السن – إلا التوقف مأخوذة.

 في السابعة عشر من عمري التحقت بكلية الآداب، جامعة القاهرة، واخترت أن أدرس الأدب الإنجليزي، وبقدر ما أحببت النصوص الكبيرة المقررة وغير المقررة بقدر ما أرهقني ضوؤها الكاشف لضآلة إمكانياتي، ثم وقع الحادث المؤسف الذي حسم الأمر لسنوات طوال تالية: قرأت قصص تشيكوف القصيرة، و كأنما سقط حجر علي ودهتمني سيارة فتركتني معوقة الحركة، وجدت أنه من المعيب أن أسمى ما أكتبه قصصا وأنه لا يصح ولا يجوز أن أواصل، قررت التوقف، و جاء قراري قاطعا كمقصلة تلح الكتابة فأقمعها، أكتب صفحات وأمزقها وأكرر على نفسي: لست كاتبة فلماذا سلوك الأغبياء؟!

 شاركت عام 1969 في مؤتمر الأدباء الشبان بالزقازيق، وكان زملائي على قدر من الرحابة فاعتبروني واحدة منهم، كان بهاء طاهر وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله وعبد الحكيم قاسم وغالب هلسا وإبراهيم مبروك وغيرهم ممن حضروا المؤتمر قد قدموا بشائر تشي بموهبتهم ولم أكن قد قدمت شيئا تقنعني قميته. وليت ظهري للكتابة وأنكرتها وانهمكت في الدراسة الأكاديمية، أعددت الماجستير والدكتوراه وأنجزت بعض الدراسات النقدية.


الكتابة تبدد الوحشة أكثر ..


في عام 1980، على فراش النقاهة بعد أزمة صحية ممتدة أمسكت القلم وكتبت “عندما غادرت طفولتي وفتحت المنديل المعقود الذي تركته لي أمي وعمتي وجدت بداخله هزيمتها، بكيت ولكني بعد بكاء وتفكير أيضا ألقيت بالمنديل وسرت، كنت غاضبة. عدت للكتابة عندما اصطدمت بالسؤال: “ماذا لو أن الموت داهمني؟” ساعتها قررت أنني سأكتب لكي أترك شيئا في منديلي المعقود وأيضا لأنني انتبهت – وكنت في الرابعة و الثلاثين من عمري – أن القبول بالنسبي أكثر حكمة من التعلق بالمطلق وأن الوقت قد حان للتحرر من ذلك الشعور بأن علي أن آتي بما لم يأت به الأوائل أو أدير ظهري خوفا و كبرياءً.

بدأت في مشروع سيرة ذاتية، كتبت صفحات تغطي تجربتي الحياتية من سنة 1946 إلى سنة 1956 ثم اكتشفت أن الخيوط التي شكلت وجدان الطفلة وتلك التي نسجت الطفلة وتلك التي نسجت تاريخ تلك الفترة أكثر تداخلا وحبكة مما أستطيع كتابته، وجدتني أتعثر في كتابة العلاقة بين خاص وعام متداخلين متشابكين إلى حد يصعب معه معرفة أحدهما من الآخر. وخفت من السقوط في الخطابية أو الغنائية فتوقفت عجزا وخوفا ، وقررت أنني بحاجة إلى “ورشة” أتدرب فيها و أتعلم. و كانت كتابة “الرحلة”: أيام طالبة مصرية في أمريكا “هي الورشة التي أقبلت عليها واعية صفتها كورشة تأهيل.

كانت مادة “الرحلة ” جزءاً من سيرتي الذاتية وإن لم تكن تطرح أية صعوبات في فهمها والتعبير عنها بدت الكتابة ممكنة، وكنت أرغب في تقديم شهادة على رحلتي الأمريكية تختلف وتتواصل مع مجموعة من النصوص التي كتبها أدباء مصريون ذهبوا إلى الغرب طلابا للعلم وسجلوا في الغالب الأعم انبهارهم بالأنوار الإمبريالية، كانت تجربتي امتدادا لتجاربهم وكانت أيضا تختلف لأنني ذهبت بتشكك وخوف ومرارة من الآخر الإمبريالي، كنت أنتمي لجيل مختلف ولي موقف أيديولوجي مغاير ثم أنني امرأة، كانت العين التي ترى والوعي الذي يصنف مفردات التجربة وينتظمها يفرضان ضرورات تخصهما.



كانت مادة “الرحلة ” جزءاً من سيرتي الذاتية وإن لم تكن تطرح أية صعوبات في فهمها والتعبير عنها بدت الكتابة ممكنة، وكنت أرغب في تقديم شهادة على رحلتي الأمريكية تختلف وتتواصل مع مجموعة من النصوص التي كتبها أدباء مصريون ذهبوا إلى الغرب طلابا للعلم وسجلوا في الغالب الأعم انبهارهم بالأنوار الإمبريالية، كانت تجربتي امتدادا لتجاربهم وكانت أيضا تختلف لأنني ذهبت بتشكك وخوف ومرارة من الآخر الإمبريالي، كنت أنتمي لجيل مختلف ولي موقف أيديولوجي مغاير ثم أنني امرأة، كانت العين التي ترى والوعي الذي يصنف مفردات التجربة وينتظمها يفرضان ضرورات تخصهما.

كانت “الرحلة” هي أول نص طويل أكمله، كنت أكتب يوميا بين صفحتين وخمس صفحات، يستغرقني العمل من التاسعة صباحاُ حتى الثانية ظهراً، تعلمت في هذه الورشة اليومية إنجاز مشروع ممتد، اكتسبت “النفس الطويل” إن جاز التعبير، تعلمت كيف أنتقل من الانهماك في تقديم مشهد بتفاصيله إلى الإطار الكلي الذي ينتظم المشاهد ويربطهما بعضهما ببعض، وتعلمت أيضا النقلات الزمانية التي تجعل من مشهد يدوم دقائق يستغرق صفحات، وواقع يدوم سنوات يكتب في سطور معدودة تصل إلى العشرة أحياناً – في إيجاد علاقة معقولة بين الاقتصاد والتكثيف والعمق من ناحية وصفاء التوصيل من ناحية أخرى، ثم أنني انتبهت وأنا أكتب “الرحلة” للمرة الأولى على ما أظن، إلى القيمة العظيمة للتشبيه كأداة بلاغية .

 أعتقد أن كتابة “الرحلة ” أكسبتني ثقة في النفس وخففت من وطأة السؤال: “هل أصلح للكتابة ؟” باختصار اكتسبت شيئا من التصالح مع نفسي ككاتبة ممكنة. كان في ذلك نهاية عام 1981 .

بعد حوالي ثلاثة أشهر بدأت في كتابة نص روائي طويل هو الذي نشر بعد ذلك بعنوان “حجر دافىء” (بفتح الحاء و الجيم) لم يكن مشروعي الواعي هو الكتابة عن شخصيات أساسا بل عن حقبة ومكان، كان مشروعي هو مصر السبعينيات: التقاط شيء من ملامح المكان في حقبة زمانية معينة، (انتبه الآن إلى أن التاريخ بمعنى تسجيل الواقع التاريخي كان دائما هاجسا يشغلني) وبسبب طبيعة المشروع جاء الأسلوب وصفيا، ملجما في الغالب، محايدا في الظاهر، بعيدا كل البعد عن التعبير “الإنشائي .

حجر دافىء ” هي أول تجربة روائية لي كانت “الرحلة ” نصا سرديا طويلا ولكنها كانت إنتاجا لتحربة عشتها ولشخوص عرفتهم، تدخلت طبعا في ترتيب المادة والتعليق عليها ضمنا أو صراحة ولكني لم أبتدع أية واقعة أو شخصية مما ورد فيها أما في “حجر دافىء” فكانت المرة الأولى التي أنتج فيها عالما بسماته المكانية والزمانية وأسكنه شخصيات تحمل ملامحه وتتحرك في إطاره، وأعتقد أن ذلك لم يكن سهلا بل كان محفوفا بالمخاطر والعثرات التي لم أوفق في كثير من الأحيان – على ما أظن – في تجاوزها.

في عام 1976 كانت قد ألحت علي تجربة روائية كتبت بعض مشاهد منها ثم تصادف أن قرأت نصا روائيا عظيما لأحد كتاب أمريكا اللاتينية فما كان مني إلا أن مزقت الصفحات التي كتبتها، والغريب أنني بعد تسع سنوات من ذلك التاريخ، و تحديدا في مايو 1985 ، عندما انتهيت من كتابة الفصل الأخير من “حجر دافىء “وجدت المشهد الأول من مشاهد تلك الرواية التي مزقتها ينبعث أمامي كملا وبحذافيره: نفس الشخصيات، الأسماء نفسها، الحوار بعينه، أعترف أنني فرحت، ورحت أكرر لنفسي “لعلي كاتبة في نهاية الأمر .. فلا شيء يلح هكذا إلا إذا كان أصيلا ..”

هكذا بدأت في كتابة رواية “خديجة و سوسن” واستغرقني إنجازها ثلاثة أعوام إذ لم يكن متاحا لي أن أكتب إلا في العطلة الصيفية، و إن حاولت في أثناء العام الدراسي لم تأت محاولتي إلا بالتوتر والاكتئاب لأن طبيعة عملي الجامعي تستهلك جزءا كبيرا من طاقتي الذهنية والبدنية .

أحتاج، لكتابة نص طويل، مساحة من الوقت المتاح كما أحتاج الشعور بأن المساحة مفتوحة أمامي لن يقطعها طارىء.

لن أقدر حتى الآن على اقتطاع نصف يوم من هنا و ربع يوم من هناك لكتابة رواية، أما بالنسبة للقصة القصيرة فالأمر يختلف: تنبت الفكرة أو الصورة في رأسي هكذا فجأة أو أرى مشهدا في الحياة يقول لي اكتبيني، وفي الحالتين لا يتطلب نقل ذلك على الورق زمنا طويلا، قد يكون يوما أو عدة أيام .

خديجة و سوسن” رواية من جزئين، الجزء الأول وترويه سوسن، الابنة كتبت الجزء الخاص بخديجة في سهولة ويسر استغربتهما، و كنت أحيانا أكتب عشر صفحات في الجلسة الصباحية الواحدة ولم أقم بتعديلات تذكر فيما كتبت، أما الجزء الخاص بسوسن فقد كانت كتابته على العكس من ذلك إذ أعدت كتابة فصول كاملة منه ثلاثة مرات في عامين متتالين. كانت تجربة سوسن، كما أراها، هي تجربة جيل من الفتيات، أصغر مني ببضع سنوات، عايشته عن قرب في الجامعة في السبيعينات، لم تكن التجربة تجربني وإن كان التماس قائما إلى حد التماثل أحيانا، والألم حاضرا إلى حد إرباك الكتابة و الزج بها إلى سكك العاطفية حيناً والإشفاق على الذات حيناً والصوت المنفعل المدافع حيناً:

أكتب ثم أتوقف وأعدل وأحذف ثم اقرأ ما كتبت فأجده رديئا فأضعه جانبا وابدأ من جديد، و أخيرا كتبت سوسن ولكن الحق أيضا أنني لم أكتبها لأن إحاطتي بتجربة شخصيات عديدة يمثلها هذا النموذج الإنساني بقيت أعمق وأثرى مما قدمته على الورق، وفي ظني أن الألم، وقدر منه ضروري لا شك في الكتابة، إذا زاد وفاض أربك النص وخرب فيه، ولأنني أردت أن أحكم الألم وجدت نفسي أعيد ما أكتب المرة تلو المرة، وجاءت شخصية سوسن.. رغم ذلك اختزالاً لواقع أغنى.

سراج” و هي آخر ما أنجزت من نصوص (كتبتها في شهري يوليه وأغسطس 1989) تدور أحداثها في نهاية القرن التاسع عشر. والنص الذي أكتبه حاليا يحكي عن شخصيات عاشت في أواخر القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، لماذا العودة للتاريخ؟ سؤال طرحته على نفسي ولم أجد له إجابة صريحة، هلى أحتمي بالتاريخ على ما فيه من ألم، من واقع تستريح النفس منه ولا تملك التعامل الهادىء معه؟ هل أبحث فيه عن سند، عن فهم، عن إجابات؟ هل هو هروب أم مواجهة ؟ كثيرا ما أتمنى التفرغ للكتابة، وكثيرا ما أفكر في ترك عملي بالجامعة ولكن لا أجرؤ فأبدو لنفسي كامرأة ترهقها حياتها الزوجية وأولادها العشرة وتراودها كل يوم فكرة تركهم والذهاب ولا تملك، ليس فقط لأنهم يشكلون ثوابت حياتها ولكن أيضا لأنها تحتاجهم و تحبهم أضج بالجامعة وأحيانا أكرهها ولكني أنتمي إليها، فمن سنوات عمري الست والأربعين قضيت فيها تسعا وعشرين سنة أعلم فيها و أتعلم .

والجامعة نظام صارم يحكمك أكثر مما تحكم فيه. تعد للماجستير والدكتوراه ثم تعد بحثا يعقبه بحث يليه بحث تنجزه أو تشرف عليه وتساعد صاحبه على إنجازه، و تجربة كافكاوية تتكرر مع مطلع الصيف كل عام حيث يتعين عليك أن تصحح مئات من كراسات الإجابة تضم آلاف الصفحات التي تعكس في الغالب خيبة نظام تعليمي وعجزك الفردي مهما بلغت من اجتهاد أو عطاء عن مواجهة هذا النظام.

ولكن الجامعة، رغم ذلك، تمنحني ما لا أستبدل به شيئا، تمنحني قاعة الدرس ولحظات مدهشة يمتد فيها جسر التواصل بين الطلاب وبيني و في اللقاء تأنس الروح وتطلق نوراسها تعلن لقاء اليابسة بالماء، أعلمهم شيئا وأتعلم منه أشياء. فمن اليابسة ومن الماء؟!

ثم أن الجامعة تمنحني زهو الأم يوم عرس الولد – أو البنت- يوم يناقش رسالة الماجستير أو الدكتوراه الذي تقدم بها وأشرفت عليها. أرى الولد متألقا بعلمه فتستطيل قامتي كأنني جدة تستقبل ولادة الحفيد ويغمرها الفرح وهي ترى الحياة تتجلى.

هذا تعطيه الجامعة، أعترف، ولكنها تجور على الكتابة وتقتطع من حقها بقسوة لا ترحم، و أعيش بين الكتابة والجامعة ممزقة كزوج الاثنتين. قاعة الدرس وإنجاز طالبة متميزة علمتها في البدء ثم نمت وفاتتني وتجاوزت تبدد وحشة الواقع و لكن الكتابة تبدد الوحشة أكثر.

الكتابة بالنسبة لي علاقة بأمور ثلاثة: علاقة بالواقع المحيط، وعلاقة باللغة ومن ورائها التراث الثقافي والأدبي المتجسدين فيها ومن خلالها، وعلاقة بحرفة الكتابة والخبرات المكتسبة في الورشة اليومية .

العلاقة الأولى تبدأ بالذات والمفردات التي تخصها وتعطيها ملامحها المميزة: بالنسبة لي هي: نهر ونخلة، وقبر الملك قديم ينشر حلم الخلود ويطوي أعمار آلاف المسخرين لبنائه، وجامعة – مسجد، وأزرقة تتفرع من حوله و تلتقي بمقابر يسكنها بشر، وعصفور ميت، وعصا، ورجل أحبه، و طفل تكون في البدء بأحشائي، وصوت امرأة تغني، ووردة، أتحدث عن القاهرة التي ولدت فيها ومصر التي أنا منها، أتحدث عن نفسي فأستغرب أنني أتحدث أيضا عن تاريخ و جغرافيا، أقول هذه مفردات عمري ثم أقول ليست مفردات عمري سوى باب يفتح على زمان ومكان.

العلاقة الثانية علاقتي باللغة العربية التي أرى فيها وطنا يمتد من قرآن العرب إلى نداء البائع المتجول، ومن النشيد الوطني على لسان الأطفال في صباح المدرسة إلى حديث السياسي الأفاق أرى في العربية وطنا متراميا، واضحا وغامضا، أليفا ومدهشا وفي بعض الأحيان مربكا، أعرفه ولا أحيط به، أسكنه وأعرف أيضا أنه يسكنني وأنني في كل قول و فعل أحمل خاتمه وعلامته . العربية أداتي و لكن الصحيح أيضا أنني أداة من أدواتها، هي كتابي الذي تضم صفحاته إرثي و حكاياتي مع الزمان، و طموحي أن أضيف سطرا جديدا إلى سطوره.

 وإن كانت العلاقة باللغة ومن ورائها الثقافة واللغة القوميتان علاقة موروثة ومتكسبة في آن واحد فإن العلاقة بحرفة الكتابة (مع افتراض وجود الموهبة) سعي حثيث واجتهاد وتعرف وتتبع ومراقبة واكتشاف و تحصيل، هي في رأيي اكتساب صرف.

 وفي ورشة الكتابة أرى نفسي تلميذة ينهكها ويجهدها حل المعادلات ثم يلمؤها زهو أهوج ساعة الوصول إلى حلول، تتوارى الصغيرة خلف امرأة تملؤها الثقة والفرح والاعتداد، و لكن اللحظة لا تدوم، تعود التلميذة تقضم أظافرها أمام معادلة جديدة أو أمام السؤال: “هل أفلحت؟.

أنتبه الآن إلى أنني في اجتهادي لتوضيح ما أظنه متطلبات الكتابة قد قدمت العلاقة باللغة وبحرفة الكتابة وكأنها ثلاثة أمور منفصلة وهي ليست كذلك إذ تتداخل و تتشابك لأن إنتاج الواقع كتابة يتم باللغة فهي وعاؤه وأداته وليست الحرفة مهارة معلقة في الهواء قائمة بذاتها ولكنها أدوات يكتشف نفعها في ورشة التعامل مع مادة بعينها قوامها الواقع واللغة معا، ثم أنها أداة لضبط المؤشر على الموجة الصحيحة التي تسمح بانتقال الرسالة بلا تشويش.

ثم تبقى الكتابة بعد ذلك حالة خاصة في كل مرة، مشروعا، إلى حد ما، قائما بذاته له دوافعه وملابساته ومقاصده .

قلت إني أحب الكتابة لأني أحبها وأيضاً لأن الموت قريب، قلت إن الواقع يشعرني بالوحشة وإن الصمت يزيد وحشتي والبوح يفتح بابي فأذهب إلى الآخرين. أو يأتون إلي، وألمحت أنني  أكتب لأنني منحازة (أعي العنصر الأيديولوجي فيما أكتب وأعتقد أنه دائما هناك في أية كتابة ) ولكن لو سألتموني الآن هل تكتبين لكسب الآخرين إلى رؤيتك؟ سأجيب بلا تردد: ليس هذا سوى جزء من دوافعي، أكتب لأني أحب الكتابة و أحب الكتابة لأن الحياة تستوقفني، تدهشني، تشغلني، تستوعبني، تربكني، وتخيفني، وأنا مولعة بها .

المصدر: رواية سراج نسخة الهيئة
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))