قال الرجل
السابع بصوت خافت يوشك أن يكون همسا: "كادت موجة هائلة أن تطيح بي. كان ذلك في
عصر يوم من سبتمبر وكان عمري وقتها عشر سنين".
كان الرجل
آخر من يحكي قصته في تلك الليلة. وعقارب الساعة كانت قد تجاوزت العاشرة، بينما المجموعة
الصغيرة المتحلقة حول النار تسمع الريح إذ تمزق العتمة بالخارج، مولية جهة الغرب، تهز
الشجر، وتضرب الشبابيك فتقعقع، وتمر بالبيت في صفير نهائي.
قال
"كانت أكبر موجة شهدتها في حياتي. موجة غريبة. عملاقة جبارة".
وسكت
لوهلة.
"أفلتتني
بصعوبة، لكنها بدلا مني أنا، ابتلعت أعزّ عزيز على نفسي وجرفته إلى عالم آخر. واحتجت
سنين لكي أتعافى من تلك التجربة، سنين ثمينة لا يمكن تعويضها".
كان يبدو
أن الرجل السابع في أواسط الخمسينيات، رفيعا، طويلا، ذا شارب، وله بجانب عينه اليمنى
ندبة، قصيرة لكنها غائرة، لعلها ناجمة عن طعنة من نصل قصير، وفي شعره القصير رقع بيضاء
خشنة صلبة. وكان على وجهه تلك السيماء التي تراها في وجوه من لا يجدون الكلمات التي
يحتاجون إليها. غير أن تلك السيماء ـ في حالته ـ بدت كأنها موجودة منذ وقت طويل، وكأنها
باتت جزءا منه. كان الرجل يرتدي قميصا أزرق تحت معطف من التويد الرمادي، وبين الحين
والآخر يرفع يده إلى ياقته. ولم يكن أيٌّ من المجتمعين هناك يعرف له اسما أو مهنة.
تنحنح،
وللحظة أو اثنتين، غابت كلماته في الصمت. وانتظره الآخرون أن يواصل.
قال
"في حالتي أنا كانت موجة. وطبعا لا سبيل أمامي لأعرف كيف كانت في حالة أي منكم.
لكن الذي حدث أنها في حالتي أنا أخذت شكل موجة عملاقة. قدّمت نفسها لي على حين غرة
ذات يوم، دونما إنذار. وكانت مهلكة".
نشأت في مدينة ساحلية في مقاطعة س. مدينة صغيرة أستبعد
أن يتعرف أيٌّ منكم على اسمها إذا ذكرته. كان أبي الطبيب المحلي، ومن ثم عشت طفولة
مريحة بعض الشيء. ومنذ أقدم ما يمكنني أن أتذكر، كان أقرب أصدقائي صبيا سوف أسميه ك،
يعيش في منزل قريب من منزلنا، وكان أصغر مني في المدرسة بصف دراسي. كنا كالأخوين، نمشي
معا إلى المدرسة ومنها، وفي البيت نلعب معا. ولم يحدث ولو مرة أن تشاجرنا طوال صداقتنا
الطويلة. كان لي أخ أكبر مني بست سنين، ولكننا لم نكن قريبين من أحدنا الآخر بسبب فارق
السن والشخصية. فكانت مشاعري الأخوية الحقيقية موجهة إلى ك".
كان ك
شيئا صغيرا ممصوصا ضعيفا، ذا بشرة شاحبة ووجه فيه من الجمال ما يكفي لفتاة. وكان لديه
نوع من الإعاقة الخطابية، ربما هو السبب في أنه كان يبدو لمن لا يعرفه أشبه بالمتخلف.
وبسبب ضعفه الشديد، كنت ألعب دائما دور الحامي له، سواء في المدرسة أو البيت. كنت رياضيا
وضخما إلى حد ما، وبقية الأطفال كانوا يحترمونني. ولكن السبب الرئيسي الذي كان يجعلني
أستمتع بقضاء الوقت مع ك أنه كان صبيا عذبا طاهر القلب. لم يكن على أيّ قدر من التخلف،
لكن بسبب إعاقته لم يكن أداؤه جيدا في المدرسة. في أغلب المواد كان لا يكاد يقدر إلا
على المتابعة، أما في حصة الرسم فكان عظيما. ضع فقط بين يديه قلم رصاص أو ألوانا وانظر
إلى الصور التي يرسمها وكيف تمتلئ بالحياة لدرجة تذهل المعلم نفسه. كان يفوز بجوائز
في المسابقة بعد المسابقة، وأنا واثق أنه كان ليصبح رساما شهيرا لو استمر في الفن في
كبره. كان يحب أن يرسم المناظر البحرية. فيخرج إلى الشاطئ لساعات يقضيها في الرسم.
وكنت أجلس في الغالب بجواره، متابعا حركة فرشاته السريعة الدقيقة، متعجبا كيف يستطيع
في ثوان معدودة أن يخلق هذه الأشكال والألوان الحية على ما كان حتى ذلك الحين مجرد
ورقة بيضاء فارغة. الآن أدرك أنها الموهبة ولا شيء آخر.
وفي إحدى
السنوات، في سبتمبر، ضرب إعصار ضخم منطقتنا. جاء في الراديو أنه سيكون أسوأ إعصار عرفته
المنطقة منذ عشر سنوات. أغلقوا المدارس، وأنزلت جميع محلات المدينة أبوابها استعدادا
للعاصفة. ومنذ الصباح المبكر شرع أبي وأخي يثبتون بالمسامير جميع أبواب العاصفة بينما
قضت أمي نهارها داخل المطبخ تطبخ مؤنا للطوارئ. ملأنا بالمياه زجاجات وعبوات، وخزَّنا
أهم أغراضنا في حقائب تحسبا للإخلاء السريع. كانت الأعاصير بالنسبة للكبار خطرا وهمًّا
يضطرون إلى مواجهته كلّ عام تقريبا، أما بالنسبة للصغار الذين لم تكن لهم علاقة بكل
تلك الهموم العملية، فكان مجرد سيرك هائل عظيم، ومصدرا رائعا للإثارة.
بعد الظهر
مباشرة، بدأ لون السماء يتغير فجأة. تغيُّر غريب فيه لمسة غير واقعية. بقيت في السقيفة
بالخارج أراقب السماء إلى أن بدأت الريح تعوي وبدأ المطر يضرب البيت بصوت جاف غريب،
كأنه حفنات من الرمل. عندها أغلقنا آخر أبواب العاصفة واجتمعنا كلنا في غرفة واحدة
من البيت المعتم نستمع إلى الإذاعة التي مضت تقول إن هذه العاصفة بالذات ليس فيها قدر
كبير من المطر، ولكن الرياح هي التي تتسبب في كثير من الأضرار فتطيح بأسطح البيوت وتقلب
السفن. وقد تسبَّب الحطام الطائر في مقتل وإصابة الكثيرين. ظلوا يحذرون الناس مرارا
وتكرارا من مغادرة بيوتهم، وبين الحين والآخر كان البيت يصرّ ويرتعش وكأن يدا هائلة
تهزه، وفي بعض الأحيان نسمع اصطداما هائلا، لشيء يبدو ثقيلا، بباب العاصفة. فكان أبي
يخمّن أن يكون ذلك اصطدام بلاطات انخلعت من بيوت الجيران. وفي الغداء تناولنا ما طبخته
أمي من الأرز والبيض المقلي منتظرين أن يعبر الإعصار.
ولكن
الإعصار لم يبد بادرة على العبور، وقالت الإذاعة إنه فقد قوته بمجرد الوصول إلى ساحل
مقاطعة س وإنه الآن يتجه إلى الشمال الشرقي بسرعة عدّاء بطيء. بينما الريح بقيت على
عوائها الوحشي وهي تحاول اقتلاع كل ما يصادفها على الأرض.
ربما
ساعة مضت والريح على أسوأ أحوالها عندما ساد السكون كلَّ شيء. بغتة حلَّ هدوء تمام،
فصار بوسعنا أن نسمع صياح طائر بعيد خارج البيت. وارب أبي باب العاصفة قليلا ونظر إلى
الخارج. كانت الريح قد توقفت، والمطر كف عن الهطول. واكتست السماء بطبقة من الغيوم
الرمادية الكثيفة، إلا من بقع زرقاء تتناثر هنا وهناك، ومضت الأشجار تتخلص من ثقل ما
اختزنته من مياه المطر.
قال لي
أبي "نحن الآن في عين العاصفة، ستبقى هادئة هكذا لفترة، لخمس عشرة دقيقة مثلا،
أو عشرين، ثم ترجع الريح إلى ما كانت عليه من قبل".
سألته
إن كان بوسعي أن أخرج من البيت، فقال إن بوسعي أن أتمشى قليلا بشرط ألا أبتعد
"ولكنني أريدك أن ترجع بمجرد أن ترى أولى بوادر الرياح".
خرجت
وبدأت أستكشف. كان من الصعب أن أصدق أن عاصفة جامحة كانت تهب هنا قبل دقائق قليلة.
رفعت عيني إلى السماء؟ بدا أن "عين" العاصفة العظيمة قائمة هناك، تثبّت نظرتها
الباردة على ما تحتها. لم يكن ثمة "عين" بالطبع، كنا فقط في البقعة الهادئة
مؤقتا في مركز بحيرة الهواء العاصف.
وبينما
كان الكبار يفحصون ما تعرض له البيت من أضرار، ذهبت أنا إلى الشاطئ. كان الطريق متسخا
بأغصان مكسورة، بعضها أغصان صنوبر صخمة أثقل من أن يحملها شخص كبير بمفرده. وكانت هناك
بلاطات من الأسطح في كل مكان، وسيارات منبعجة المسَّاحات، بل وبيت كلب طار وانتقل إلى
عرض الشارع. فلعل يدا هائلة تدلَّت من السماء لتسوِّي كل شيء بالأرض.
رآني
ك أسير في الطريق فخرج إليّ.
سألني
"إلى أين أنت ذاهب؟"
قلت
"فقط لألقي نظرة على الشاطئ".
وبدون
كلمة أخرى مضى معي. وكان عنده كلب صغير أبيض فتبعنا.
قلت
"ولكن لحظةَ أن نشعر بأيِّ ريح سنرجع فورا إلى البيت" فأطرق ك صامتا.
كان الشاطئ
على بعد مائتي ياردة من بيتي، وكانت تصطفُّ لديه مصدَّات موج خرسانية: سدٌّ هائل، ارتفاعه
في مثل طولي أنا في تلك الأيام. فكان علينا أن نصعد بضع درجات بسيطة لكي نصل إلى حافة
الماء. وفي ذلك المكان كنا نلعب كل يوم تقريبا، فلم يكن ثمة شبر لا نعرفه. ولكن كل
شيء بدا في عين الإعصار مختلفا: لون السماء والبحر، وصوت الموج، ورائحة المدّ، وامتداد
الساحل كله. جلسنا فوق مصدِّ الموج لبعض الوقت، ناظرين إلى ما حولنا دون أن نتبادل
كلمة. كان يفترض أننا في قلب إعصار عظيم، ومع ذلك كان الموج ساكنا بصورة غريبة. والنقطة
التي كان الموج يلتقي عندها بالشاطئ كانت بعيدة بصورة غير معتادة حتى عند انحسار المد.
كان الرمل الأبيض يمتدّ أمامنا إلى أقصى ما تراه عيوننا. بدا الفضاء الهائل كله أشبه
بغرفة عارية من الأثاث، اللهم إلا حفنة من حطام الأشياء على الشاطئ.
خطونا
إلى الناحية الأخرى من المصدِّ وسرنا بطول الشاطئ العريض، نعاين الأشياء التي انتهت
إلى هذا المكان. دمى بلاستيكية، صنادل، قطع خشب لعلها كانت من قبل أجزاء في أثاث، قطع
قماش، زجاجات غير مألوفة، صناديق مكسورة عليها كتابات بلغات أجنبية، وأشياء أخرى أقل
وضوحا: بدا وكأننا في محل هائل للحلوى. لا بد أن العاصفة أتت بذلك كله من أماكن بعيدة
للغاية. وكنت كلما لفت انتباهي شيء غير معتاد تناولته ونظرت إليه بكل طريقة ممكنة،
فلما ننتهي يأتي كلب ك ويتشممه جيدا.
لا يمكن
أن نكون قضينا في ذلك أكثر من خمس دقائق، عندما تبيّنت أن الموج ارتفع بجواري مباشرة.
وبدون صوت أو إنذار، مدّ البحر فجأة لسانه الطويل الناعم إلى حيث كنت أقف على الشاطئ.
لم أكن رأيت مثل ذلك من قبل. كنت طفلا بالطبع، ولكني نشأت على الساحل وأعرف كيف يمكن
أن يكون المحيط مرعبا، وبأيِّ قدر من الوحشية يمكن أن يهاجم دونما إعلان مسبق.
وهكذا
راعيت أن أبقى بعيدا بالقدر الكافي عن الماء. وبرغم ذلك تسللت المياه حتى باتت على
مقربة بوصات من حيث كنت أقف. ثم رجعت المياه، دونما صوت، وبقيت على مبعدة. الموجات
التي اقتربت مني كانت آمنة مثل أي موج رقيق يغسل الشاطئ الرملي. ولكن كان فيها نذير
ما، شيء شبيه بلمس جلد أحد الزواحف، جعل الرعشة تسري في ظهري. كان خوفا بلا أي أساس،
وحقيقيا للغاية مع ذلك. عرفت بالغريزة أنها كانت حية. أن تلك الموجات كانت حية. كانت
تعلم أنني موجود وتخطط للنيل مني . شعرت كما لو أن وحشا ضخما آكلا للبشر كامن في مكان
ما من سهل معشب يحلم باللحظة التي ينقض فيها فيمزقني إربا بأسنانه الحادة. كان لا بد
أن أهرب.
صحت في
ك "أنا ذاهب من هذا المكان" كان على بعد عشرة ياردات تقريبا من الشط، قابعا،
موليا ظهره لي، ناظرا إلى شيء ما. كنت واثقا أني صحت بقوة كافية، ولكن لا يبدو أن صوتي
وصل إليه. ربما كان مستغرقا في ذلك الشيء الذي عثر عليه فلم يكن لصيحتي أثر عليه. كان
يركّز في الشيء إلى حدِّ أن ينسى كل ما عداه. أو ربما أنا لم أزعق بالقدر الكافي. أتذكر
أن صوتي بدا لي غريبا، وكأنه صوت شخص آخر.
ثم سمعت
صوت قعقعة عميقا، بدا وكأنه يهز الأرض. في الواقع، قبل ذلك الصوت كنت سمعت صوتا آخر،
صوت قرقرة عجيبا وكأن الماء كان يندفع من ثقب في بطن الأرض. استمر لوهلة، ثم توقف،
ثم سمعت صوت القعقعة. وحتى ذلك لم يكف ك كي يرفع عينيه. ظل قابعا، ناظرا إلى شيء ما
بين قدميه، في تركيز عميق. لعله لم يسمع القعقعة. ولكني لا أعرف كيف تأتَّى ألا يسمع
صوتا اهتزت له الأرض نفسها. قد يبدو هذا غريبا، لكن لعله كان صوتا لم يكن ليسمعه غيري،
صوتا من نوع خاص. حتى كلب ك لم يبد أنه لحظه، وتعلمون مدى حساسية الكلاب للأصوات.
حدثتني
نفسي بأن أجري إلى ك فأشده وأبعده من هناك. كان ذلك هو التصرف الوحيد الممكن. كنت أعرف
أن الموجة آتية وك لم يكن يعرف. وبقدر ما كان واضحا لي ما الذي ينبغي أن أفعله، وجدت
نفسي أجري في الاتجاه الآخر بأقصى سرعة متجها نحو المصدّ، وحدي. أنا واثق أن ما جعلني
أفعل ذلك هو الخوف، خوف بلغ من القوة أن استولى على صوتي وأطلق ساقيّ للجري من تلقاء
نفسيهما. أخذت أجري متعثرا في رمال الشط الناعمة إلى مصد المياه وهنالك التفتّ وزعقت
على ك.
"بسرعة
يا ك، تعال من عندك، الموجة آتية". وفي تلك المرة أصاب صوتي. أدركت أن القعقعة
توقفت، فسمعني ك أخيرا ورفع عينيه. لكن الوقت كان قد تأخر. وإذا بموجة كأنها ثعبان
عملاق رافع رأسه عاليا، متأهب للانقضاض، تسارع باتجاه الشاطئ. لم أكن رأيت مثل ذلك
في حياتي. لا بد أنها كانت بارتفاع ثلاثة طوابق. ارتفعت بلا صوت (أو أن صورتها على
الأقل عديمة الصوت في ذاكرتي) من وراء ك لتحجب السماء. نظر ك إليّ لثوان وهو لا يفهم
ما يجري. ثم، كأنما استشعر شيئا، استدار إلى الموجة، حاول أن يجري، ولكن لم يكن قد
تبقى للجري وقت، وابتلعته الموجة.
تحطمت
الموجة على الشاطئ، متناثرة إلى ملايين الموجات المتواثبة التي مضت تسبح في الهواء
لتهوي على المصد الذي كنت واقفا لديه. كان بوسعي أن أتفادى أثرها من مخبئي خلف المصد.
بلَّل الرذاذ ثيابي، ولا شيء أكثر. زحفت صاعدا السور ماسحا الساحل. وفي ذلك الوقت كانت
الموجة قد استدارت تسارع بصرخة جامحة عائدة إلى البحر. بدت وكأنها قطعة من بساط هائل
يسحبه شخص ما من طرف الأرض الآخر. ولم أعثر على أي أثر لـ ك في أي موضع من الساحل،
أو أثر لكلبه. لم يكن ثمة إلا الشاطئ الخاوي. كانت الموجة المنحسرة قد سحبت معها كثيرا
من مياه الساحل فبدا وكأنها كشفت قاع المحيط كله. وقفت وحدي لدى المصد، متجمدا في مكاني.
ساد الصمت
كلّ شيء مرة أخرى، ولكنه صمت يائس، وكأنما الصوت نفسه اجتث من الأرض. ابتلعت الموجة
ك واختفت في البعيد، ووقفت هناك، لا أعرف ماذا أفعل. هل أنزل إلى الشط من جديد؟ قد
يكون ك في موضع ما هناك، مدفونا في الرمل ... ولكنني قررت ألا أغادر المصد. كنت أعرف
أن الموج الهائل قد يأتي على مرتين أو ثلاث.
لا أعرف
بالضبط كم مضى من الوقت، عشر ثوان ربما مضت أو عشرون ثانية من الخواء المخيف، ثم جاءت
الموجة الثانية مثلما توقعت. زئير هائل آخر هزّ الشاطئ من جديد، وبعدما تلاشى الصوت،
علت موجة هائلة أخرى برأسها تريد الانقضاض. انتصبت أمام عيني شاهقة، تحجب السماء، كأنها
جرف قاتل. ولكنني هذه المرة لم أسارع إلى الجري. وقفت غارسا قدمي لدى الجدار البحري،
ذاهلا، أنتظر هجمتها. وقلت لنفسي: أي نفع الآن في الجري وقد راح ك؟ أو لعلي تجمَّدت
لا أكثر، وغلبني الخوف. لست واثقا من كنه ما أوقفني هناك.
كانت
الموجة الثانية في مثل قوة الأولى، أو ربما أكبر. ومن ارتفاع شاهق فوق رأسي بدأت في
السقوط، فاقدة قوامها، كأنها جدار يتداعى ببطء. كانت تبلغ من الضخامة أنها لم تعد تبدو
موجة حقا، بل هي شيء من عالم آخر، بعيد. جهّزت نفسي للحظة التي تستولي عليّ فيها العتمة،
حتى أنني لم أغمض، ولم أزل أتذكر خفقان قلبي في وضوح لا يصدق.
ولحظت
أن جاءت الموجة أمامي، توقفت. بدا أنها فجأة استنفدت طاقتها، وقدرتها على الحركة إلى
الأمام فبقيت تحوم في الفضاء وتتداعى في سكون. وفي قمتها، في القلب من لسانها الشفاف
القاسي كان ما رأيته بعيني هو ك.
قد يجد
البعض منكم هذا الكلام مستحيلا لا يمكن تصديقه، ولو أن الأمر كذلك، فلست ألومكم. أنا
شخصيا يصعب عليّ أن أصدق حتى الآن. لا أستطيع أن أفسر ما رأيت بصورة أفضل منكم، ولكنني
أعرف أنه لم يكن وهما، أو هلوسة. بل أحكي لكم بأقصى ما أستطيعه من الصدق ما حدث في
تلك اللحظة، ما حدث بالفعل. في قمة الموجة، وكأنما في القلب من كبسولة شفافة من نوع
ما، كان جسد ك يطفو، منحنيا إلى أحد جنبيه. ولكن ذلك ليس كل ما هناك. ك كان ينظر إليّ
مباشرة، ويبتسم. هناك، أمام عيني بالضبط، وقريب بحيث كان بوسعي أن أمد يدي فألمسه،
كان ثمة صديقي، صديق ك، الذي ابتلعته الموجة قبل لحظات فقط. وكان يبتسم لي. لم تكن
ابتسامة عادية، كانت ابتسامة كبيرة، عريضة، بفم مفتوح، تمتد حرفيا من الأذن إلى الأذن.
عيناه الباردتان المتجمدتان كانتا تنظران إليّ. لم يعد ك الذي عرفته قبلها. وذراعه
الأيمن كان ممتدا باتجاهي، كأنما كان يحاول أن يشدني إلى العالم الآخر الذي صار فيه.
لو اقترب قليلا، لأمسكت بي يده. فلما لم يستطع، ابتسم لي ك ابتسامة أخرى، أوسع وأعرض
من ذي قبل.
يتبع.....
نشر هذا
الجزء من الترجمة في ملحق شرفات اليوم والبقية الأسبوع القادم، وهو ترجمة لترجمة جاي
روبن إلى الإنجليزية
المصدر:
مدونة أحمد
شافعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))