على الرغم من وفاة «تشارلز بوكفيسكي» منذ فترة ليست بالقريبة (1920-1994)، إلا أن الشباب في العالم الآن، وخاصّة شباب الوطن العربي يتهافتون على أعماله الروائية وأعماله الشعرية، لربّما هي العبقرية التي تحدَّث عنها هو نفسه عندما قال: «أنا عبقري، ولا أحد يعرف سواي»، أو مع ازدياد الاهتمام بقصيدة النثر، خاصّة التي تتمتّع بما يُسَمّى (المجانية ) أو القضايا الشخصية دون القضايا العامّة، كما هي قصائد بوكفيسكي التي تحمل الدهشة والمعاني البسيطة الخالية من التعقيدات اللغوية، أو الاستعارات البلاغية التي تمتّعت بها أشعار هيمنغواي، ولغة فوكنر الشاعرية، وأشهر قامات الأدب الأميركي.
ولد «هنري تشارلز بوكفيسكي» لوالد نصف بولندي، كان جندياً في البحرّية الأميركية، ولأمّ ألمانية، كانا قد تعارفا أيام الحرب، وأنجباه، ثم انتقلا إلى العيش في الولايات المتحدة. كان والده عاطلاً عن العمل، لذلك صرَّح بوكفيسكي، في العديد من الأحاديث التليفزيونية، أن طفولته كانت
تنقَّل بوكفيسكي بين العديد من الأعمال، كما تنقَّل في أنحاء الولايات المتحدة،وعمل في وظائف مختلفة: من عامل لغسل الصحون، إلى سائق شاحنة، إلى ساعٍ في مكتب البريد، إلى عامل في مسلخ للبهائم، إلى موظّف في مرآب، وقد رُفِدَ منه نتيجة إطّلاعهم على صحيفة سوابقه التي كانت تمتلئ بمخالفات القيادة، ثم عاد إلى العمل موظَّفاً في هيئة البريد.
ولعل تلك الفترة هي التي أثَّرت في كتابة بوكفيسكي، وجعلته أديباً مثيراً للجدل، نتيجة لاختلاطه بالطبقة الدنيا(ملح الأرض) من المجتمع الأميركي، وهي الفترة التي آمن بها بعدم نجاعة الحلم الأميركي للطبقة الدنيا ورفضه للنظام الرأسمالي والأحلام القومية والتي جعلت (راسيل هاسين)، في كتابه «ضد الحلم الأميركي»، يعدّه كاتباً سياسياً، والأديب الأميركي الوحيد، بعد الحرب، الذي هاجم الحلم الأميركي وانتصر للطبقة الدنيا منه، و-لربّما- هذا هو ما جعل الأدباء الأميركيين وجمعية النقّاد يتجاهلون أعماله لفترة كبيرة، أو كما يقول: «انتشرت أعمالي في أوروبا، وخاصّة ألمانيا، ولكنها لم تلاقِ انتشاراً في أميركا إلى فترة قريبة، لأني كنت خارجاً عن السرب، يبدو أنهم، في أميركا، يفضِّلون أكثر الأدب الآمن والثابت».
ولكن، هناك بعض النقّاد عزَوا عدم الاهتمام بشعر بوكفيسكي إلى خروجه عن السرب اللغوي الأخلاقي، تلك اللغة الفجّة التي استخدمها في شعره أومجّانية الكلمات الخالية من الجماليات التي كانت مفاجئة للنقّاد والأكاديميين في أميركا، تلك الكتابة غير الحذرة، كما سمّاها، أو الخالية من المحظورات والتدقيق، هي من ضمن أسباب التحفظ منه عربياً، فلم يترجَم أي عمل من أعماله إلى العربية إلا منذ فترة قريبة. ونتيجة لظهوره مع«BEAT GENERATION»، جيل البيت الذي يحمل أفكاراً مخالفة لكل شيء في أميركا، حتى في قضاياه الأدبية وأساليب الطرح والحياة السياسية والحياة الاجتماعية عامةّ،وكان من أبرز كتّابه «جاك كيرواك، و«ريتشارد فورد» وغيرهم، عُدَّ بوكفيسكي- على الرغم من عدم انتمائه إليهم، ولكن لتشابه الأساليب- واحداً منهم، فَتَمَّ تجاهله أكثر من قِبَل جمعية النقّاد الأميركيين. بوكفيسكي طيلة حياته لم يكن منتمياً إلى اتّجاه كتابي معيَّن، حتى أنه- على الرغم من ثرائه، نسبياً، في أيّامه الأخيرة وسَكَنه في حَيّ الأغنياء- ظل يكتب عن أفراد الطبقة الدنيا (ملح الأرض) الذين نشأ معهم، وألهموه كتاباته.
يُعَدّ ديوان «زهرة، قبضة وعويل وحشي» أوّل ديوان صدر له، حيث كان قد نشر العديد من الأشعار في مجلّات الروك والمجلّات الصفراء الساخرة، وكان لا يزال، وقتها، موظفاً في هيئة البريد، ولكن، في عام 1969 استقال من عمله، عندما وعده ناشر أعماله «جون مارتن» بإعطائه منحة 100 دولار شهرياً، وتلك المنحة هي ربع دخل الناشر الشخصي، تلك المنحة وعده بها الناشر سواء أأنتج أعمالاً أدبية أم لم ينتج، وبعد ثلاثة أسابيع فاجأه بوكفيسكي بروايته الأولى «مكتب البريد» التي تُرجِمت إلى خمس لغات، وعندما أبدي جون اندهاشه عاجَلَه بوكفيسكي: «كتبت تحت تأثير الخوف، فإذا لم تكن أحوالك المادية بخير فأنا لست بخير، وأنا أعلم أن الشعر لا يباع جيداً»، حصل جون مارتن على عقد حصري بنشر أعمال بوكفيسكي مدى الحياة، حتى أنه أنشأ شركة «BLACK SPARROW BOOKS» ليكون نشرها الأساسي هو أعمال بوكفيسكي التي قاربت أكثر من سبعين ديواناً، ومجموعات قصصية، وستّ روايات، تلك الأعمال التي قال عنها إنها جميعاً (سرد ذاتي ) أو- على حَدّ قوله- «93 % منها سيرة ذاتية، و7 % منها محاولة لتحسينها».
المصدر: صحيفة
الدوحة
ترجمة وتقديم: وسام جنيدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))