الخميس، 13 أغسطس 2015

أنا... قصة قصيرة

 
 كان كل واحد في الصالون الأنيق يقول .. أنا .. أنا .. أنا ..
الجراح الكبير ينفث الدخان من سيجار مدلى من فمه كأنه مدخنه وابور طحين .. و يلتفت حوله في زهو .. و يلقي الحديث على أصحابه في كلمات مرصوصة منمقة ..
- أنا .. أنا .. أنا لما كنت في مستشفى هيدلبرج في ألمانيا .. عملت العملية دي لوحدي و من غير بنج .. في خمس دقائق .. لما الجراحين الصغيريين اللي كانوا معايا قعدوا يستعجبوا و يبصوا لبعض .. مش عارفين طبعاً إني عملتها ألف مرة في القصر العيني قبل كده .. و إني كنت بعملها و أنا مغمض .. و أفتح بطن العيان كأني بعزف على البيانو .

و لم يكن واحد من المستمعين يتتبعه ، فقد كان كل منهم يتعجل دوره ليحكي شيئاً عن انتصاراته هو الآخر و لذلك لم يكد يفرغ من حديثه حتى انطلق رجل عجوز يجل إلى جواره يلوح بيديه قائلاً :

- أنا ما اعرفش في الجراحة .. أنا راجل مهندس .. لكن حكاية التمرين دي صحيح .. أنا فاكر لما وضعت تصميم عمارة الأسيوطي .. رسمت الكروكي في نص ساعة و أنا بشرب الشاي الصبح .. و بعدين على العصر كان مكتب التصميم شغال زي خلية النحل . و المهندسيين مكفيين على الورق ينفذوا الخطوط اللي رسمتها .. و بعد سنة كانت العمارة طالعة زي الزرع الشيطاني .. عشرين دور فوق الأرض .. و كل واحد يبحلق .. و يقول ازاي .. ازاي عملها .. ازاي عملها الجن ده ..

و لم يرق للمحامي أن يكون الصامت الوحيد في الزفة .. فهرش رأسه هو الآخر و ما لبث أن قال :

- في كل حاجة التمرين مهم .. مش بس الجراحة و المباني .. في القضايا كمان .. أنا في القضية الأخيرة اللي هزت البلد .. استلمت المتهم فطسان من ايد النيابة .. معترف و ماضي و باصم كمان !
و مع كده كسبت له القضية .. ليه .. لأني عشت فيها و عشت في أمثالها ألف مرة قبل كده .

و كانت زوجة المحامي طوال الوقت تنقر على كرسيها في ضيق .

- انتوا الحقيقة مسبتوش لنا حاجة يا رجالة .. لكن ايه رأيكم أنا هطلع أشطر منكم كلكم .. و إني حاعمل تلاتة زيكم كمان عشر سنين .. حايبقى عندي كمان عشر سنين ابن جراح و ابن محامي و ابن مهندس .. أنا و لا أنتم بقى ؟

و كان طفلها يتشبث بها أثناء الحديث و يهمس في أذنها بين لحظة و أخرى :
- أنا حلو يا ماما .. أنا حلو ؟

و القسيس هو الوحيد بين الضيوف يميل على الخادم .. و يقول :
- أنا عاوز القهوة سادة ..

و الشاب الأسمر الذي يقف إلى جوارالنافذة يهمس إلى شاب آخر بجابه :
- أنا عاوز هوا .. هوا .. ما بيدوروش المروحة دي ليه ؟
و في وقت واحد كان من الممكن أن تسمع أحاديث غريبة لا يمت الواحد منها إلى الآخر بصلة .

- أنا بقوللك الحصان ده مش ممكن يكسب .. اوعى تفكر تراهن عليه .. أنا كلامي عمره ما ينزل الرض انت عارف .

- أنا دماغي بتدق الظاهر الضغط رجع تاني

- أنا عاوزهم كلهم يطلعوا و يسيبوني أنا و الست الحلوة اللي هناك دي ..

- أنا مش ممكن أسيب الراجل الندل ده .. إلا أما اوديه في داهية .. أنا لازم أرفع عليه قضية و أدخله السجن .

- أنا اشتريت الأرض من الوقف .. كانت خرابة .. شوف دلوقت بقت ايه !

- أنا مروح ..

- أنا حانام هنا ..

- أنا...

كل واحد يقول أنا .. أنا .. أنا ..

و شعرت بالغيظ و أحسست أن كل واحد من الحاضرين كذاب .. و أنه كذب على نفسه حينما حضر هذه السهرة بحجة الصداقة .. فلا أحد كان يفكر إلا في نفسه ..
و استأذنت و انصرفت .

و عند باب العمارة .. كان البواب يلوح بذراعه في وجه زميله صائحاً :
- أنا مش عارف عملك ايه .. أجيبك من هنا توديني هنا .. أنا من النهاردة مليش كلام معاك .. أنا بقالي عشرين سنة على الدكة دي ريس البوابين .. و كلامي يسمعه الكبير و الصغير .. أنا لازم ....

و في الطريق توقفت عند محل .. أشتري منه بعض لوازمي .. و كنت ما أزال أفكر في شلة الصالون . التي تشبه عقداً منفرطاً .. كل حبة في خيط وحدها ..

و حينما بلغت منزلي .. كان يجري خلفي صبي صبي صغير يحمل لي اللوازم في صناديق على كتفه ..
و حينما دخلت من الباب .. مددت يدي فتناولت لوازمي و ذهبت لتوي إلى غرفة النوم .. و ألقيت نفسي على فراشي مرهقاً ..

و بعد مضي ساعة تذكرت فجأة إني نسيت أن أنقد الصبي أجره ..
نسيت لأني أفكر أنا الآخر في نفسي .. في الأشياء التي أريدها و الأشياء التي لا أريدها ..

انفرطت أنا الآخر كحبة وحيد تجري في خيط وحدها ..
و شعرت بالخجل و الألم .. و جززت على أسناني .. و لم أدر لمن أوجه اللعنة .. لنفسي أم للناس ..

من المسئول عن هذا ..؟

..

د. مصطفى محمود
من كتاب : عنبر 7


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))