هذا الأسبوع يكون قد مرّ مئة عام على نشر قصة كافكا التحول و
بالصدفة يتزامن ذلك الحدث مع ذكرى رحيل أنطون تشيكوف.
احتفت بهما الجرائد و المجلات الأدبية ، فالفن النادر الذي أجاداه
منذ هذا الزمن البعيد ، هو القدرة الفريدة على إحداث أكبر قدر من الإضطراب في نفسك
بسطور قليلة ، نُسميها عَرضا قصة قصيرة .
تلك “القصة القصيرة”تقع
على حافة الشعر ، تدنو في خجل إلى عالم النثر ، بعيدة عن العالم المهيب المتشابك للرواية
.. غير مُكترثة بالقالب و لا بإعتبارات النشر التي تجتزء أهميتها ؛ فهي أصغر من رواية
و أكبر من مقال و أقل شاعرّية من قصيدة .. يبدو أنها قطعة بسيطة من الأدب ، لكن من
قال أن البساطة تعني السهولة على أية حال!
هذه الأيام تناسب القِصر النسبي للقصة القصيرة لمعايير النشر
الإلكتروني ، فالمواقع الأدبية و المجلات الكبيرة تُتحفنا بنشر القصص القصيرة لصغار
و كبار الكتاب مثل ليديا دافيز و موراكامي الذي تنشر له النيويوركر كل فترة قصة قصيرة
جديدة ، ربما تكن أبلغ كثيرا من أعماله الطويلة ، إلا أن شعبيته الكبرى تحققت بأعماله
الروائية ، فهل لاتزال القصة القصيرة أدنى مكانة من الروايات الطويلة؟
الأدب لا يٌقاس بالطول بالطبع ، لكن معايير الشعبية و النجاح
التُجاري قصة أخرى.
مئة فكرة عن التحول
التحول أو الميتامورفوسيس
Metamorphosis من أهم أعمال كافكا بالطبع و هي تدور حول فكرة بسيطة
؛ جريجور سامزا الموظف البسيط الذي يحمل مسئولية الإنفاق على والديه و أخته، يصحو ذات
صباح ليجد نفسه تحوّل إلى كائن طفيلي عملاق أقرب للحشرة ! فكرة مُرعبة لكنها ليست خيالا
علميا أو من نمط المغامرات ، الأكثر رعبا أنها قصة إجتماعية من الدرجة الأولى!
تدّعي الجارديان هذا العام أنها ربما أفضل القصص القصيرة على
الإطلاق، في مقالها الغني جدا و الذي أنصح به أي مُهتم بعالم كافكا و القصة القصيرة
، يقول الكاتب “ريتشارد كيللي” مئة فكرة عن كافكا و تحفته التحول.
كان من الطبيعي أن أعيد قراءتها بهذه المناسبة، و هو ليس أمرا
صعبا من ناحية الوقت لكنه مُضنِ مع ذلك ، في إعادة إكتشاف تلك القصة. إن الكلاسيكيات
لا تروِ أسرارها جملة واحدة ، و لا تحكي لنا
ما في جعبتها من أول مرة. خاصة حين نقرأها صغارا ، و لم نكتوِ بعد بنار الحياة ، فتبدو
لنا الكلمات جميلة مُبدعة و كأنها مواطن بلاغية . لا ندري أنها حقيقية تماما ، بل أن الخيال أكثر رقة و وضوحا من
الواقع.
صحيح أن كافكا سودواي جدا ، لكنه صادم في وضوح. عكس الواقع الذي
يصدمنا رويدا رويدا ؛ الذي يستل سيفه في هدوء و يغرز نِصال تجاربه في هدوء و دون الكثير
من الجلبة ، فجراحه لا تقتل و لا تدمي كثيرا ، هي فقط تترك علامات مُرشدة على الطريق،
ثمن معقول لو فكرت في الأمر.
لكن شخص حساس مثل كافكا ، يستنكر تلك الجراح و يرفض سطوة الحياة
عليه و يرفضها في تعال ككل ، حتى مفاتنها و جمالها يُعرض عنها طواعية، و كأنه يبارزها
بالزهد و التحقير مما لديها لتعرضه. انظر لفنان الجوع قصته القصيرة الشهيرة أيضا.
يقول ريتشارد كيلي”إن كتابات كافكا أشبه ببروفات خيالية لنهاية
كل الأشياء.”
ثم يمضي فيخبرنا بحقائق كثيرة من حياته بدءا من وصيته الشهيرة
لصديقه بأن يحرق أعماله بعد موتها لنقصانها و عدم بلوغها الكمال، لكنه استثنى الأعمال
التي نُشرت بالفعل و منها التحول و المحاكمة و فنان الجوع.
بالطبع لم يحرق “برود” شيئا . و يتوقع الكاتب أن كافكا نفسه
كان يعرف ذلك . و يحكي بعض الشيء عن علاقاته النسائية التي لم تنجم أي منها عن ارتباط
جدي كشأن كل تلك الأشياء الناقصة في حياته.
أما أهم اكتشاف فهو علاقته المضطربة بأبيه ، فمن أشهر آثار كافكا
خطابه الحزين الذي بعثه لأبيه الذي يوجه فيه الاتهام للأب الذي أساء معاملته و تتضح
ملامح تلك العلاقة العاصفة في قصة التحول ذاتها.
يقول حنيف قريشي -الكاتب و المسرحي الإنجليزي دي الأصول الباكستانية-
: “أن شخصية أبيه هي أكبر عمل مؤلف لفرانز كافكا!” فمعظم ما يحكيه لنا من تلك العلاقة هو ما دار بخلده
هو لا ما حدث واقعا، أيا كان ذلك الواقع. و
يتعاطف آلان بينت أحد مُترجمي كافكا مع هيرمان كافكا (أبيه) قائلا أن كل آباء الكُتاب
و الفنانين لا يفلحون أبدا في التعامل معهم.
حول قصته لعمل مسرحي ناجح ستيفن بيركوفعام 1969 بلندن و قام
بنفسه بتجسيد دور جريجور المعقد ، و أعاد تمثيله ممثلون آخرون مرات عدة،كما تم تقديمها
على برودواي عام 1989. و في عام 1986 استوحى دافيد كرونينبرج الفكرة ليقدم معالجة جديدة
في فيلمه “الذبابة” The Fly.
بين تشيكوف و كافكا
نأتي لفنان الإيجاز : أنطون تشيكوف ، فأجده أكثر سلاسة وإمتاعا،
تنزلق كلماته من الورق وتمضي إليك في سهولة ويسر، تزرع لنفسها بذورا في عقل كل تلبث
أن تثمر فجأة عن أفكار و اكتشافات جديدة، لم تكن في مخيلتك.
ينفذ إليك بسهولة ودون ألم- كالجرّاح الماهر ليخبرك عن أسرار
نفوسنا نحن لا فقط شخوصه، يضعك في المواجهة برفق أو بقسوة طبقا لما تشعربه أنت حيال
ما يحكيه ويكشفه عن نفسك و المجتمع.
أما كافكا فنصال مشاعره
حادة تنفذ إليك فيوجع على الرغم من الرتابة البادية لأحداثه وشخوصه القليلة إلا إنها
كما نقتل أبطاله تجرح فينا شيئا ماربما إدعاءاتنا، ربما خيلائنا أننا كنا نظن أنفسنا
أكثر قوة وأفضل حالا من أبطاله، على الرغم من أن بنا شيئا من حساسيتهم السوداء من ترقبهم
وتخوفهم من الحياة، من نفاذ البصيرة وانفلات الهدف، من قنوطهم أن تنجم معاناتهم عن
شيء ..
أخيرا ..على الرغم من مرور مئة عام إلا أن جريجور سامزا لا يزال
يثير فينا الخوف ، من أن نصحو يوما ما ،و نبدو حقا ما نشعر به!
المصدر: قُل
بقلم: دينا عبدالهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))