«كانت جدتي تكتب في دفاترها
لتنقذ الفتات الهارب من الأيام وتحتال على الذاكرة الضعفية، و أنا أحاول إلهاء الموت».
هكذا كتبت إيزابيل الليندي لابنتها «باولا» في رسالتها الطويلة
التي تحولت إلى ذلك العمل الأدبي الملهم الساحر، وأجابت ببساطة على سؤال شغلني لسنوات
طويلة، منذ كنت أجلس إلى جدتي لتحكي حكايات هي بطلتها تمزج فيها ما حدث وما كان لابد
أن يحدث، لم أكن أدري متى تتحول النساء إلى ملهمات، أي خط وهمي يعبرن حتى يملكن هذا
السحر متى تنبت لهن تلك الأجنحة ..مضى زمن وأنا أعتقد أن هذا أمر خاص بالجدات، أراقب
الأمهات من حولي فيمر الوقت ولا أجد فيهن من تشبه جدتي ولا تحكي مثلها ..حتى التقيت
إيزابيل الليندي في باولا.
يحمل الغلاف صورة تلك الشابة ملائكية الملامح وعذبة الابتسامة
«بولا» ابنة إيزابيل الليندي التي دخلت في غيبوبة أثناء تواجد والدتها في مدريد لكي
توقع روايتها الثانية، وفي ممرات المشفى المدريدي الباردة وبجوار سرير باولا في منزل
إيزابيل في كالفورنيا خَطت تلك الرسالة، من أم لابنتها لكي لا تكون ضائعة تماماً عندما
تستيقظ على حسب قولها، وما بين مشاعرها في انتظار يقظة لا تأتي وسردها عن جذور عائلتها
وسيرتها الشخصية وتاريخ بلادها، نذهب مع الروائية التشيلية الشهيرة التي كتبت بكل ما
أوتيت من وجع وحزن لتحارب في معركة ضد الموت، لنعايش تجربة إنسانية قد تتكرر في أماكن
مختلفة على سطح هذا الكوكب، لكن حكاية باولا نقلتها إلينا واحدة من النساء الملهمات.
بتلقائية وصدق تبدأ الأم/الروائية رسالتها، تحكي إيزابيل لباولا
عن أسلافها وبدايتهم في شيلي، عائلتها، ما كانت شاهدة عليه بحكم قرابتها لأول رئيس
يساري منتخب وكيف أطاح به انقلاب عسكري مدعوم من الولايات المتحدة.
رحيلها عن بلادها وحياتها في الغربة، وهذا الجزء التاريخي قد
يفتح للقارئ نافذة أخرى للقراءة.
أجزاء الرواية الأجمل هي تلك التي تتحدث فيها إيزابيل لباولا
عن مشاعرها، سواء في حياتها السابقة أو في انتظارها بجوار ابنتها ..كعزف على الروح
ممتلئ بالشجن والمحبة.
تتحدث دون خجل أو تورية عن مشاعرها كأنثى في مراحلها العمرية
المختلفة..عن قصص مراهقتها وحبها وزواجها وتمردها على برد المشاعر الذي أصاب علاقتها
الزوجية بالعطب.. عشيقة حبيبة أو زوجة، والأم تتحدث من قلبها تواجه حضور الموت المتربص
فوق سرير باولا بالحب والصدق والمزيد من الحب.
تتناول أحداث حياتها بجرأة شديدة لا تخبئ جرماً، سواء كانت صاحبته
أو شاهدة عليه، لا ترسم الشخصيات بصورة كاملة بل تترك جزءاً مبهماً غائباً كما الناس
في الحياة لا في الروايات ..تصرح بأسماء الشخصيات مهما كانت شهرتهم دون أن تبرر لهم
أو تبرر عنهم. وأنت لا تملك سوى التوحد معها والسير في ركابها مأخوذاً بسردها وصدقها
وأمومتها.
تمضي أيام إيزابيل: «يوم آخر من الانتظار، ويوم ينقص من الأمل،
يوم آخر من الصمت، ويوم ينقص من الحياة. الموت يمضي طليقاً في الممرات ومهمتي مشاغلته
حتى لا يجد الطريق إلى بابك».
كما تقول مخاطبة باولا، حتى نصل إلى نهاية الشطر الثاني من الكتاب
بعد أن نقلت الأم ابنتها إلى منزلها بكالفورنيا وتأكدت أنه لا سبيل إلا ترك الصغيرة
ترحل في هدوء.
في ذلك الجزء تكشف عما لا نريد الاعتراف به أمام أنفسنا ..الأنانية،
كيف نتمسك بوجود من أحببنا إلى جوارنا مهما كان الأمر مؤلماً لهم.. لا نريد اختبار
الفقد حتى لو أدركنا أن كل ما نفعله لا يخفف عنهم شيئاً.
و حتى تستلم إيزابيل في النهاية و ترحل باولا بعد غيبوبة امتدت
سبعة أشهر في مشهد النهاية الرائع الذي جعلته الأم/الروائية كحفلة انضمت إليها، فيها
من أحبتهم أحياء وأموات.
«وداعاً
يا باولا المرأة وأهلاً يا باولا الروح».
هكذا تنهي إيزابيل الليندي رسالتها إلي ابنتها الرواية/ السيرة
الذاتية المليئة بالنساء الملهمات والتي نقلها إلى العربية الساحر صالح علماني، لا
يمكن أن تودع هذا الكتاب بالكلية فمثل هذه الأعمال تبقى عالقة في الروح كتجربة عايشتها
ولست مجرد قارئ لأحداثها.
اقتباس
«إن حياتي تتجسد حين أرويها وذاكرتي
تثبت بالكتابة؛ وما لا أصوغه في كلمات وأدونه على الورق سيمحوه الزمن».
رواية باولا
إيزابيل الليندي
المصدر: كسرة
بقلم: وفاء فاروق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))